الجمعة، 16 يوليو 2021

الانسان الاعلى النيتشوي وعلاقته بالانسان المعاصر

 (كان هذا المقال ، جزء من بحوثي لنيل الاجازة الجامعية في تخصص الفلسفة من جامعة الكويت)


الانسان الأعلى عند نيتشه بين إرادة القوة والقيم والأخلاق

ما هو مفهوم الانسان الأعلى لدى نيتشه؟

 

 

المقدمة

 

يعتبر الانسان الأعلى هو الشكل النهائي لفلسفة نيتشه والغاية النهائية لها، بالرغم ان الفلاسفة كما قول ماركس كانت مهمتهم تفسير العالم ولكن يجب عليهم تغيره إلا ان هذا الامر لا ينطبق على نيتشه الذي كان أيضا مهتما بتغيير العالم وخصوصا الفرد الألماني والاوربي، كان نابليون تجسيدا لذلك الانسان الذي يصبو اليه نيتشه، اذ ان فلسفة نيتشه تكاد تكون محاولة لإعادة عصر نابليون الذي انهزم وتحطم بعد ووترلو، ذلك القائد الذي اعتبره هيغل روح العالم واعتبرته أوروبا بادئ الامر محررا لا غازيا، ولكن اختلف كل ذلك بعد ووترلو، كان ويل ديورانت يرى ان التشاؤمية التي سادت اوروبا بعد ووترلو سببها انهزام مشروع الثورة الفرنسية وقتها ولكن انهزام نابليون كان بلا شك احد أسبابها، اذ انه تمثيل لإرادة القوة وللقيم الفرنسية الجديدة وبذلك حاول نيتشه بفلسفته إعادة انتاج نابليون والقادة العظام ما قبل المسيحية من رومان واغريق، لذلك كان مثلثه ان صح القول يبدأ بهدم القيم المسيحية وصياغة إرادة القوة واثباتها كروح ولوغوس للعالم وأخيرا مسألة موت الاله التي تسقط اطلاق القيم وثباتها، وجعلها نسبيه كما عند اخلاق السادة والعبيد ومن ثم يصبح ذلك الانسان الأعلى والمبشر به هو صانع قيمه.

 

ان القوة واللذة والمجد كانت تطوف مع نابليون حيثما طاف في حروبه وكذلك كان نيتشه يرى ما يجعل عليه ان تكون عليه الإنسانية مستقبلا، والانسان الأعلى الذي يريد منه أن يتجاوز الانحطاط الذي يعيشه الانسان الأوربي وقتها المعتمد على الكم وليس الكيف، على الجماهير والمساواة التي تسحق الكيف القليل كما سحقت أوروبا وبريطانيا نابليون بالكم.

 

سأذهب في هذا البحث أولا بإرادة القوة ما هي وما علاقتها بالإنسان الأعلى ومن ثم ما علاقة القيم القديمة والقيم الجديدة التي يريدها نيتشه، وما هي اخلاق السادة واخلاق العبيد واي الاخلاق أحق ان تتبع لدى نيتشه، وهل الانسان الأعلى مجرد فرضية فلسفية ذات بعد نظري، ان هناك تطبيق فعلي حصل لها، وما علاقة كل ذلك بالإنسان المعاصر، او انسان ما بعد الحداثة.

 

 

نيتشه فيلسوف القوة (تعريف لنيتشه)

 

يعتبر نيتشه والذي ينحدر من طائفة نبلاء البولنديين ابنا لقساوسة فقد كان شاعرا وموسيقيا وعالم لغة وفيلسوف، كانت لغته صعبة وأفكاره أحيانا مبعثرة حتى تجد من الصعوبة أن تفهم ما يقصده، فقد اعتمدت فلسفته على الرمزية الغامضة، كان أحيانا عاطفيا وأحيانا عصبيا وكثيرا متمردا.

" وقد حصل نيتشه على معارف كثيرة وعلوما بفضل ميله كطالب مزود بمواهب غير عاديه وأيضا بفضل عالم اللغة الكلاسيكي ريتشل الذي بث فيه حب الأدب اليوناني واللاتيني وعلم اللغة".

إذا نحن أمام شخصية فلسفية كبيرة فلقد كان نيتشه فيلسوفا داعيا للعنف فلا رحمة للضعيف في عرفه لقد كان نبي فلسفة القوة أو ربما عبقري مجنون تمرد نيتشه على أفكار عصره ليس فقط الأفكار الفلسفية بل حتى الدين والأخلاق فلقد أظهر جرأة كبيرة في التمرد على القيم المسيحية والمذهب البروتستانتي رغم أن أبويه كانا قسيسين.

مرت حياة نيتشه الفلسفية بعدة مراحل كما يقول وليم كيلي رايتالمرحلة الأولى عندما فرغ من كتابه ميلاد المأساة حيث فسر فيه المغزى الخفي للحياة اليونانية والأدب أنه صراع إرادة الحياة عند شو بنهور " ولذلك يبدأ نيتشه في كتابه ميلاد المأساة باستبدال الأمر الإيجابي بتأكيد إرادة القوة بأمر شو بنهور بإنكار إرادة الحياة. كان يعني بالقوة في ذلك الوقت بالفعل، بصفة خاصة في الإنتاج الجمالي والمتعة. ويشير إلى المسيحية طفيفة، غير إنه يقصد بوضوح استبعاده".

فمن الواضح إن فريدريك نيتشه أراد أن ينتقل بالفكر الألماني نقله نوعية بحيث يتخلص فيه هذا الفكر من كل عوامل الضعف بحيث يدرك الشعب الألماني أن غرائزه أصدق من ثقافات اليونانيين المنحطة فأراد أن يصب نيتشه في الحياة قوة عنيفة تماما كما فعل لوثر في الدين فربما تأتي لحظة تلد فيها ألمانيا عصر البطولة. كان هدف نيتشه هو خلق جيل جديد هذا الجيل يسميه نيتشه عصر العباقرة الأقوياء وكان الطريق لهذا العصر هو " أعاده بناء الأخلاق والدين على أساس نظرية التطور وأن عمل الحياة لا يتجه إلى تحسين حال الأكثرية من الشعب، ولكن إلى خلق عباقرة، ورفع أعظم وأسمى الرجال".

 

مفهوم الانسان الأعلى (السوبرمان)

 

" أنا المبشر بالبرق، وهذا البرق اسمه الانسان الأعلى" 

 

يعتبر مصطلح Übermensch ذروة فلسفة نيتشهالميتافزيقية المتجسدة بإرادة القوة وهي استكمال للإرادة الشوبنهاوريه ومفهوم القوة الأخلاقي لدة نيتشه وبين تلك الاخلاق التي بشر بها نيتشه نقداً للأخلاق القديمة المسيحية كما يسميها وينتقدها، وتختلف الترجمات في هذا المصطلح هل الأعلى ام المتفوق ام ما فوق الإنسانية، الا ان الترجمة الأولى تكاد تكون اصوب لارتباط كلمة Über الألمانية بالأعلى والعلو وحسنها لغوية بعكس الثالثة.

 

ان هذا الانسان الذي بشر فيه نيتشه او حاول اعداد جيل انساني جديد يتحلى بأخلاقياته، هو الشكل النهائي وحجر الزاوية لفلسفته التي كانت عملية اكثر منها تفسيريه كما الماركسية وكما قال ماركس ان مهمة الفلاسفة يجب ان تكون تغيير العالم لا تفسيره، اذ انه أي نيتشه بعد ان طور مفهوم الإرادة عند شوبنهاور وأضاف عليه القوة في الشق الميتافزيقي، قام بتتبع كلغوي ناجح وعظيم أصول المصطلحات الأخلاقية او القيم، ليجد انها تختلف بل وتنقلب عند العامة بعكس الطبقة المسيطرة، وان الاخلاق التي يريدها ليست الا الاخلاق الحقيقية والتي تحلى بها من قبل الرومان والاغريق وان الاخلاق والقيم الحالية هي مرض سرطاني متمثل بالمسيحية وقيمها، أوقف همة الشعب الألماني والاوربيين والبشرية بشكل عام التي تتحلى بهذه القيم منها ويرى أن الانسان المستقبلي القادم أو الانسان الأعلى يجب أن يتحلى بالأخلاق التي بشر بها والتي ترى بالقوة هي السبيل الوحيد لجعله ينتقل من مرحلة انتقالية بين القرد وبين الانسان الأعلى وهي الإنسانية في وقته وربما في وقتنا ان تحلت بتلك القيم ولم تختر إرادة القوة سبيلا.

 

مبدأ اللذة والاشباع هو ما يريده ان يتحلى به الانسان الأعلى عند نيتشه اذ ان إرادة القوة يجب ان يتم اشباعها بالمجد وهذا المجد ارضي لا يعترف صاحبها بالماورائيات او بحياة أخرى ان صح التعبير، لكنها ليست عدمية وانما هناك هدف ومعنى لهذا الانسان الأعلى الا وهو أن يكون هو ويكون الأقوى ويتجاوز الانحطاط الذي اورثته المسيحية للإنسان الأوربي بشكل خاص وللمسيحيين بشكل عام " ففي النفس وما يصدر عنها من أحوال يستطيع المرء أن يرى إرادة القوة، بعد ان يمزق الأقنعة العديدة التي تتستر من ورائها: فسواء أصاب الانسان الناس بشر ام اصابهم بخير، فانه في كلتا الحالتين يمارس قوته ويستخدمها. فالطبائع القوية تبحث عن اندادها من الأقوياء وتسعى للنضال والتنافس واياها قدر المستطاع".

 

مسألة موت الاله تعتبر الركن الثالث والأخير لمثلث نيتشه المتمثل بإرادة القوة والأخلاق التي يجب ان يتحلى بها بل وتعتبر الركن الأساسي لهذا كله، اذ بموت الاله او نفيه تنتهي معها ثبات القيم وخلودها والذي ينبع من خلود وثبات الاله في الأديان، ان في موت الاله مع تحطيم ثبات القيم أيضا تخول للإنسان الأعلى ان يكون صانعاً لمعنى الحياة وهو القوة وصانعاً للقيم أيضا. بالرغم أن هذه المسألة اولت كثيرا خطأ على أنه اعلان لتحدي فيلسوف مجنون لموت مقدس ظل ملازما الإنسانية منذ وجدت، ولكن في الحقيقة البُعد البلاغي فيها او الشعري يكاد يكون ركنها الأساس، الانسان في  عصر نيتشه وما بعد، اصبح لا يحتاج لفرضية اله الفجوات كما كانت تسمى تهكما في الأوساط العلمية، فالعلم التجريبي اليوم يؤمن الكثيرين انه يجيب عن كل شيء، وثانيا بما أن العلم التجريبي والإنسانية تستطيع ان تجيب عن كل شيء دون الرجوع كما كان في السابق للكهنة او للساحرات او وحي الأنبياء او للأساطير عن أي سؤال كوني، بذلك يكون الإنسانية مكتفية بنفسها وبذلك يخول لها أن تصنع كل قيمها بما يتناسب معها، وخلود القيم القديمة او ثباتها ذهبت مع سقوط الاله الذي لم يعد مركزا للمعرفة والأخلاق معرفة كما كانت عند الاغريق، بهذا تكون مسألة موت الاله مسألة أبستمولوجيا كما كانت إرادة القوة مسألة ميتافزيقية لشكل العالم.

 

بهذا يكون الانسان الأعلى مستقبلا للبشرية او انسان ما بعد الحداثة بعد أن فسر العالم بأنه تجسيد لإرادة القوة ميتافزيقياوموت الاله ابستمولوجياً وخواء القيم القديمة وكبح جماحها للذة تلك الإرادة وفنائها مع موت الاله.

 

 

هكذا تكلم زرادشت والتمرد على القيم 

 

تبدأ سردية زرادشت اثناء نزوله من الجبل بعد سنوات اعتكاف ليرى أولا تجسيدا حياً للإنسان الذي يسمو له او الانسان الأعلى المتمثل بالرجل الذي يمشي على الحبل، ممثلا نيتشه صورة بلاغية عن الرجل المتمثل بالإنسان والحبل بالخطر الذي يتعايش معه الانسان الأعلى بينما يكتفي البشر العاديين الوقوف على الأرض معزين انفسهم بانهم بمأمن، ثم اعلان موت الاله بعد ذلك ليكون ممهدا لموت القيم معه وثباتها " ولم يقنع نيتشه في خلق إله في صورة نفسه بل أراد أن يكتب الخلو لنفسه فقال سيعود كل شي في هذه الحياة بالتفصيل الدقيق مرة بعد مرة ومرات لا نهاية لها حتى نيتشه سيعود وستعود ألمانيا ذات الدم والحديد والحرب والنار والرماد. كما ستعود كل جهود العقل البشري منذ بدأه في أزمنه الجهل إلى زرادشت ".

إذا بدأ تمرد نيتشه بإنكار وجود الإله وجعل من نفسه ومن جنس الألماني كله وصيا على البشر ، ومن هذا المنطلق بدأ نيتشه أن يتمرد على المسيحية وعلى كل دين و على القيم التي ارساها المسيح لأنه أعتقد وفقا لمبادئ زرادشت إن هذه القيم التي تتمثل بالتسامح و العفو و الصفح و الحب و التعاون كل هذه العواطف و القيم مدعاة للضعف و الذل " لقد رفض نيتشه المسيحية بشدة لأسباب عديدة فليس هناك إله ، و الإيمان بالله انقرض تقريبا ، و الصلاة سخف و بطلان  المسيحية كما علمها يسوع في الأصل سيئة ، وأصبحت أسوء عن طريق بولس و أولئك الذين جاؤوا بعده . إنها تأكيد زائف على الحب، والشفقة، والتعاطف. هكذا أطاحت بالمثل والقيم اليونانية. إنها مفسده تماما للإنسان الحديث، الذي يجب أن يكون روحه حرة، ويثبت وجوده، ويعتمد على نفسه".

من الواضح إن إرادة القوة التي يريد نيتشه الوصول لها وتحقيقها تبدأ من خلال التمرد الذي أظهره نيتشه على القيم المسيحية بل وكل القيم التي تتعارض مع الإنسان الأعظم فلقد كان نيتشه يريد أن يتحقق الحلم الكبير بخلق رجال عظماء عباقرة يحكمون ويسودون العالم وتمنى كثيرا أن يتخلص هذا العالم من الضعفاء والمتمثلين بأصحاب القيم المسيحية المنحطة كما بوجهة نظرة لأنهم عبئ على هذا العالم وكبح لحرية تقدمة وتطوره.

 

 

 

الإنسان الأعلى بين اخلاق السادة واخلاق العبيدعند نيتشه

 

كان تصور نيتشه للقوة تصور ثوري، فالقوة لديه كانت تعني البطش و التمرد على كل قيم الحب والتعاطف و التراحم فكثيرا ما أكد لنا نيتشه أنه لا يرضى بالأخلاق السائدة ، لقد أنكر نيتشه تماما وجود قيم مطلقه. 

ومعايير أخلاقية ثابتة لا تتغير ورفض القول بإرجاعها إلى الاله ،كما أنكر القول بردها إلى العقل فأنكر بالتالي وجود خيري في ذاته أو حق في ذاته ، ورأى بالتالي أن رد المعايير إلى الإنسان الذي يتغير بتغير ظروف أحواله وهذا هو الذي جعل نيتشه يصنف الأخلاق من حيث قدرة أصحابها على البقاء وكانت عقيدته فيها إن القيم الأخلاقية تختل باختلاف المعايير والأزمنة والأمكنة وأدى به ذلك إلى تصنيف الأخلاق إلى صنفين أولهما أخلاق السادة الأقوياء الذين يمتلكون إرادة القوة وثانيهما أخلاق العبيد الضعفاء " فأما أخلاق العبيد فتتمثل في الأخلاق الدهماء، وهم الكثرة الغالبة ، أخلاق الصبر، و الحلم والطاعة و التواضع وغيرهما مما دعت إليه المسيحية من وجوه الضعف و الانحطاط .... أما أخلاق السادة فهي التي تمكن للإنسان القوي وتوطد نفوذه، وهي تتمثل في الاعتزازبالقوة واحتقار الضعف واحترام القسوة والاستخفاف بالرحمة والدعة، وحب الصراحة وكراهية الكذب والنفاق والخداع، والنفور من أنصاف الحلول والميل إلى الظفر في ميادين الكفاح وقهر المنافسين والسير على حثهم في غير رفق ولا رحمة".

هذه هي الأخلاق كما يراها نيتشه فقد كان يعتقد إن العبيد يتمردون على قيم السادة و معاييرهم ويضعون غيرها لكي يتلاءمذلك مع وضعهم كعبيد فقد كان يكرر نيتشه كثيرا عبارته المشهورة إن الأخلاق صنعت من أجل الضعفاء ، لقد كان نيتشه يؤمن أن فضيلة السادة تقتضي القوة والقدرة على الصراع والمغامرة و السيطرة وغيرها من الفضائل في حين إن العبيد يميلون إلى المسالمة و التواضع و التعاطف وهي فضائل سلبية هزيلة ، إن نيتشه فيلسوف القوة جعل من معتقده هذا وسيلة للقضاء على كل قيم الرحمة و التسامح حقا، لقد كان هتلر الطباخ المحترف لأفكار نيتشه .. ويقول الدكتور بدوي " فالعباقرة جميعا محتاجون في مستهل حياتهم إلى التأثر والإعجاب بإحدى الشخصيات العظيمة.محتاجون إلى هذه الشمس الوهاجة التي يستمدون منها النور،وهم في بداية حياتهم الروحية، وفاتحة سبيلهم لتحقيق رسالتهم ... وتراهم دائبين حولها ، يتغنون بها ويحاولون جهدهم أن يصوروها على مثال النموذج الأعلى المرتسم في مخيلاتهم عن البطل و الأبطال المخاطرة والقوة وحل المكر محل القوة وحل القدر محل الثأر،والشفقة محل العنف والتقليد محل الابتكار وصوت الضمير محل الكبرياء والشرف".

 

 

 

أخلاق البطل (الانسان الأعلى) والطريق إلى القوة.

 

لقد كان هدف نيتشه هو تأسيس أخلاق القوة التي تصنع الرجال العظماء الأقوياء فقد كان ينظر إلى الرجل الألماني على أنه المثال للقوة و البطش والسيطرة وسنرى لاحقا كيف كانت أفكارهالمتهورة سببا رئيسيا في صنع السياسة الألمانية فقد تأثر به موسوليني وبالتالي كان هو مثل هتلر الأعلى أن البطل من وجهة نظر نيتشه هو ذلك الإنسان الذي تفوق بقدراته بحيث أصبح يملك من القوة والبطش ما يستطيع به أن يقهر كل خصومة وهذا هو الذي جعل نيتشه يرفض المقاييس الأخلاقية للديانة المسيحية فقد رفض نيتشه  لأشكال وأنواع المساواة التي دعت إليها المسيحية وتخلى نيتشه عن كل عواطف الشفقة والشعور بالعطف فهو يرى " إن العطف أمر مشروع إذا كان فعالا . إما الشفقة فهي ضرب من الشلل العقلي ومضيعة للشعور في إصلاح ما لا يرجى إصلاحهم من العجزة والمشوهين. والأشرار والمرضى والمجرمين هذا بالإضافةإلى ما تنطوي عليه الفقه من السماحة وقلة الأدب".

وبالتالي فإن البطل كما يراه نيتشه هو ذلك الإنسان الذي تعالى وسمى فوق تلك الأخلاق الرذيلة بضعفها وشفقتها وتساما ليصنع الأخلاق التي تبني إرادة القوة عنده لأن نيتشه يعتقد إن العقل و الأخلاق بالشكل السابق يعجزان أمام إرادة القوة ، إن إرادة القوة عنده تصنع لنا تمردا حتى اتجاه النظم الفلسفية التي ما يظنها نيتشه إلا سرابا مخادعا وبالتالي تصبح الغريزة عنده هي التي تصنع إرادة القوة و لكي يصبح الإنسان بطل يجب أن يتخذ من شخصيات عظيمه قدوة له ، ويعتقد نيتشه أن الغرائز توجد في الأقوياء مثل غريزة الصيد والقتل و الغزو والفتح و السيطرة وهذه الغرائز كما يعتقد نيتشه لابد من أن تخرج وتصبح واقعا يصنعه البطل إن الأخلاق صنعها الضعفاء لكي يجعلوها عقبه أمام الأقوياء بحد تفكير نيتشه إلا أن نيتشه يعتقد إن المجتمعات صنفين عامة الناس و عامة الأقوياء ويرى أن الفضائل الشريرة التي يتميز بها الأقوياء ضرورية في المجتمع تماما مثل الأخلاق الخيرة التي يتصف بها الضعفاء فالقسوة و العنف والخطر و الحرب لها قيمتها.

وعليه يستطيع نيتشه من خلال التمرد على المسيحية ورفضه أخلاق التسامح والشفقة والاقتداء بالعباقرة أن يصنع لسوبرمان أو الإنسان الأعلى وهذا هو الذي جعل نيتشه يرى ضرورة النهوض بالأقوى والأفضل في الشعب و أن يكون هدف الإنسانية هو الإنسان الأعلى و ليس الجنس.

 

الإنسان الأعلى هو صانع القيم وخالقها عند نيتشه 

 

مره ثانية يستبدل نيتشه القيم المسيحية المطلقة او أخلاق العبيد، بتلك القيم والأخلاق التي يصنعها الإنسان الأقوى إذ إن نيتشه يرى إن الإنسان الفرد هو الذي يصنع القيم و بالتالي يصنع الأخلاق و لكن للعلم فإن نيتشه لا يقصد بالأخلاق تلك الأخلاق المعروفة بالتسامح و العفو و العدل و المساواة و الخ ولكن يقصد أخلاق القوة أخلاق البطل لأنه يرى إن القوة وحدها و ليست الشفقةهي الأساس للأخلاق و لهذا دعي نيتشه إلى ضرورة التخلص من أولئك الضعفاء و المرضى و ذوي الاحتياجات الخاصة لأن في لقاء هؤلاء يعني بقاء أخلاق الضعف و الاستكانة وهذا ما يرفضه نيتشه ولا يرى فيه سوى الشر ويبقي فقط على أخلاق الانسان الاعلىالذي يصنع القيم من خلال القوة رغم إنه سوف يواجه متاعب و هنا نجد إن نيتشه ينادي بالنسبية الأخلاقية لأن الأخلاق التي سيصنعها الإنسان الأقوى ستكون أخلاقا ذاتيه و شخصية بمعنى إنها تعبر عن فكر ذلك الإنسان ومعتقده إلا أن الشيء الغريب إن نيتشه لم يذكر لنا هل العالم سيحتاج فقط إلى إنسان سوبرمان يقوده و يصبح الباقين رعية له يسري عليهم قانونهم الأخلاقي أم أن هناك أعداد كبيرة من لسوبرمان و في هذه الحالة نتساءل ألن يحدث صراعا يا نيتشه يؤدي هذا الصراع إلى انهيار أكذوبة لسوبرمان على غرار ضرب الأقوى بالأقوى لا أدري ماذا سوف تكون إجابة نيتشه . إلا إنني أعتقد أن نيتشه أراد إن يصنع أخلاقا تصنع القوة لأنه يرى "إن الحياة الحديثة افتقدت القوة والإنسان القوي وطلب السعادة والإنسان السعيد، بل إنها ما طلبت هذه وهذا إلا لأنها افتقدت تلك وذاك وذاك عين التناقض إذ كيف يمكن فاقد القوة والقوة مكسبه للسعادة عند نيتشه". من الواضح إن نيتشه يريد تأسيس أخلاق تتوافق مع مذهبه في القوة. كل هذا هو الذي أراد من خلاله نيتشه أن ينادي بأعلى صوته في كتابه هكذا تكلم زرادشت بالقول " الطلعة البهية للإنسان الأعلى أطلت عليا في هيئة طيف مالي والآلهة إذا".

 

 لقد أراد نيتشه باستبعاده لفكرة المساواة أن يفسح الطريق للإنسان الأعلى في أن يصنع قيم جديدة تميزه و ترفعه و تجعله هو الأقوى و الأوحد وفي النهاية يمكن القول إن فريدريك نيتشه من مؤيدي نسبية القيم و كذلك الأخلاق لأنه لا يمكن أن يسلم بوجود أخلاق مطلقه وقيم ثابتة لم تصنعها إرادة القوة أو لسوبرمان ولهذا فقد آمن بأن الإنسان القوي هو الذي يصنع قيمه بنفسه و يصنع للآخرين قيمهم ولهذا فقد هاجم نيتشه الفلسفات السابقة ابتداء من الفلسفة اليونانية و حتى فلسفات العصور الوسطى و الحديثة لأنها فلسفات تدعو إلى الخضوع ولذلك نجده في مألفه أول الأصنام "يحكي نيتشه لحظات تهاوى العالم الماورائية ، الدينية و الميتافيزيقية ، حيث يقول كيف نختم كيف غدى العالم الحقيقي ، خرافة و عنوانها تاريخ خطأ... على ضوء هذا يجمع نيتشه نص الميتافيزيقا في رواية لها مراحلها الزمنية التي بدأت منها وانتهت إليها ، و التي لن تقوى بعدها على الانتصاب من جديد ".

إن نيتشه من أجل أن يعطي للإنسان الأقوى الانفراد بصناعة القيم والأخلاق أراد أن يثور على كل شي فهاجم الفلسفات القديمة منذ أفلاطون مرورا بالعصور الوسطى حتى وصل إلى عصر كانط،رفض الميتافيزيقا ورفض الأخلاق الفلسفية المستمدة من الأخلاق المسيحية ودعي إلى موت الإله كل هذا من أجل أن يفسح الطريق أمام صانع جديد للقيم وهو الإنسان الأعلى أو لسوبرمان.

 

إرادة القوة والانسان المعاصر ومفهوم موت الاله

 

رأينا في صفحات البحث السابقة إن نيتشه كان هدفه الأساسي و الأول هو النهوض بالإنسان المعاصر له لكي يتجاوز الزمان و المكان و يتسامى ويرتقي بفضل إرادة القوة ليصل إلىأعلى مرتبه وهي الإنسان الأعلى وفي سبيل هذا ضحى نيتشه وتنازل عن جميع القيم و الأخلاق التقليدية و المسيحية بل وحتى العادات بين الناس ذا منه إن الطريق للوصول إلى الغاية القصوى و التي يسميها الإنسان الاعلى لن تتحقق إلا من خلال ثورة شامله لها جانبان الأول عام و يتمثل في ثورة الإنسان و تمرده على كل القيم و أديان و الاعتقاد بضرورة التخلص من أي قوة تقف في مواجهة هذه الإرادة بما فيها الاله وإعلان موته، و الثاني خاص ويتمثل في ثورة الإنسان على ذاته و التسامي و العلو فوق رغباته وشهواته كل ذلك من أجل الوصول إلى العهد الجديد و ليس هنا المقصود به المسيحيةولكن هو عهد الإنسانية الأعلى وهنا يقول نيتشه " نحن سائرون إلى عهد ما بعد العدمية أو هو عهد الإنسان الأعلى أي عهد محاربه أثار العدمية و مخلفاتها ، أعني عهد تجاوز الحداثة و تجاوز الإنسان الأخير. ولئن أعلنت السوقة بأنه لا وجود للإنسان الأعلى".

فإن زرادشت يقول أيها الأناس الأعلون تعلموا مني قولي... والذي فاته هؤلاء السفلى إن الإنسان الأعلى صار امرؤ ممكن التحقق بعد موت إله الأخلاق المسيحي وأن الأمور دلت إليه لقد مات الإله ونحن نريد أن يحيى الإنسان الأعلى".

وهكذا يصبح الإنسان الأعلى عند نيتشه هو الكائن الوحيد القادر على تجاوز العدمية التي خلفها الإعلان عن موت الإله الأخلاقي وأنه إنسان المستقبل الذي سيحرر الناس ويخلصهم من العدم ويعيد إلى الأرض هيبتها فالإنسان الأعلى عنده هو من يقهر المسيح والعدم وهو الذي سينتصر على كل الإله ولا شك في أن يوم هذا الإنسان آت قريبا.

إذا نيتشه لديه الأمل في الإنسان الأعلى الذي سيحكم العالم و يحقق الخير الوفير فقد بشر به نيتشه وحاول أن يجعله عقيدة لدى كل إنسان لأن نيتشه إن العالم وصل إلى مرحله من الخطر إلىدرجة أنه أيقن بضرورة الخلاص من هذا الواقع المرير من خلال الإنسان الأعلى الذي يتجاوز ذاته ومرضه وضعفه فلقد كان الإنسانهدفا و غاية أقصد الإنسان الأعلى أما الإنسان العادي فكان مجرد كائن عابر ومرحلة عشناها لنصل إلى العلو وهكذا أصبح الإنسانالأعلى هو نهاية التاريخ العدمي وظهور التاريخ الإنسان الحقيقي عند نيتشه الذي يتسم فيه العالم بالنزعة التجريبية الإبداعيةفالإنسان الأعلى هو الغاية و النهاية و هو الذي يعبر بسموه عن إرادة القوة . 

 

 

 

الخاتمة

بالنهاية قد يربط الكثير من الباحثين بين الانسان الأعلى وألمانيا النازية والدول الفاشية وان تلك الدول هي تجسيد حي لفلسفة نيتشه للقوة أولا، وجمهوريات افلاطونية تحاكي فلسفة نيتشه وهذا بلا شك صواب ولكن يبقى نيتشه وانسانه الأعلى موجودا بيننا وفي قيمنا اليوم، او في عصر ما يسمى ما بعد الحداثة، اذ ان اليوم بعد الفلسفة البنيوية اصبح المطلق والثابت غير موجود، لذلك اصبحنا نسمع بنسبية الاخلاق ليس في حقل الفلسفة فقط وانما حتى في العلم التجريبي، كما عند الأنثروبولوجيا، واصبح الانسان اليوم في ظل النظام الرأسمالي يمثل باللذة والاشباع والصراع،يتملك قيم الانسان الأعلى اكثر من قيم المسيحية القديمة التي تلعن الجسد وترى ان ملكوت الله لا يناله الأغنياء ولا مجد الى في العالم الاخر.

 

تكاد تكون النتشويه اليوم متسترة وراء انسان ما بعد الحداثة،ويكاد يكون انسان ما بعد الحداثة هو الانسان الأعلى دون أن يدري، ولكن بلا شك أن الأنظمة الفاشية والنازية كانت مصانع متقدمة وكامله لإنتاج هذا الانسان الذي كان كما نار نيتشه تبتلع نفسها، ويبقى انسان ما وراء الحداثة اليوم شبقا بشكل غير مسبوق لقيم الاخلاق الدينية رغم عدم ممارستها، لان تلك القيم فعلا قد غابت وصارت قيم الانسان الأعلى وإرادة القوة وموت الاله هي السائدة رغم جل الكثيرين بها.

 

استحق القرن العشرين أن يكون قرن ماركس ونيتشه ولكن مع سقوط ماركس يبقى نيتشه موجودا حتى القرن الحالي، في كل مكان مع انتصار الرأسمالية التي تشجع المنافسة والثراء والمجد واللذة الموضوعية.

 

 

عبدالعزيز عمر الرخيمي



قائمة المراجع والمصادر

المراجع:

1 نيتشه، فريدريش. هكذا تكلم زرادشت. ترجمة علي المصباح.(2007). منشورات الجمل. بغداد. الطبعة الأولى.

المصادر:

1 بدوي، عبدالرحمن. خلاصة الفكر الأوربي: نيتشه. (1975). وكالة المطبوعاتشارع فهد السالم – الكويت. الطبعة الخامسة.

2 بلعقروز، عبدالرزاق. نيتشه ومهمة الفلسفة: قلب تراتب القيم والتأويل الجمالي للحياة. (2010). منشورات الاختلاف. الجزائر. الطبعة الأولى.

3 الشيخ، الدكتور محمد. نقد الحداثة في فكر نيتشه. (2008). الشبكة العربية للأبحاث والنشر. لبنان. الطبعة الأولى.

4 عويضة، الشيخ كامل محمد محمد. فردريك نيتشه نبي فلسفة القوة. (1993). دار الكتب العلمية. لبنان. الطبعة الأولى.

5 رايت، وليم كلي. تاريخ الفلسفة الحديثة. ترجمة محمود سيد احمد (2010). التنوير للطباعة والنشر. لبنان. الطبعة الأولى.