الاثنين، 9 ديسمبر 2019

تجليات فلسفية: نهاية التاريخ وهيغل نبياً


تجليات فلسفية: نهاية التاريخ وهيغل نبياً





أَعلى من الأَغوار كانت حكمتي
إذ قلتُ للشيطان : لا . لا تَمْتَحِنِّي !
لا تَضَعْني في الثُّنَائيّات ، واتركني
كما أَنا زاهداً برواية العهد القديم
وصاعداً نحو السماء ، هُنَاكَ مملكتي
خُذِ التاريخَ ، يا ابنَ أَبي ، خُذِ
التاريخَ … واصنَعْ بالغرائز ما تريدُ

          *محمود درويش - الجدارية


تبقى مسألة نهاية التاريخ إلى اليوم ليست فقط من المسائل الشائكة من معسكر لاخر بل وايضا المحرك الرئيس لتلك المعسكرات سياسياوعسكريا ونفسيا ايضا، قد يظن البعض أنها مسألة بدأت مع هيغل (إذ يرى ان التاريخ البشري يصل لمرحلة نهائية من السيرورة ويكونالكمال فيها) ولكن الحق هي بجوهرها قديمة قدم التاريخ وربما ابعد من ذلك بقليل!.
أنها اسقاط أو انعكاس للحالة الانسانية التي تسعى دوما للكمال لهذا لا بد ان يصل التاريخ مع الانسانية للكمال الذي تتوقف فيه السيرورةوالتطور الى نهاية انها قمة الجبل للتاريخ الانساني وما بعدها الا انحدار له وسقوط.

هيغل نبياً

كان واضحاً التأثر الديني على نسق هيغل العقلي، ربما قد يرجع البعض لسنوات عمره الاولى التي كان يعده فيه اهله أن يكون قسيساً، أوربما دراسته المستفيضة لجميع الاديان، ومحاولته تفسير وجود تلك الاديان من خلال التطور الذي يرى المسيحية ذروته التي جمعت كلمحاسن الاديان القديمة وتركت الغث منهُ واستأثرت بالسمين.

لكن تلك الدراسة أثرت على النسق الفلسفي الهيغلي ومن بعد ستأثر على كل المدارس التي ستاتي من بعده خصوصا الماركسية والليبرالية،إذ أن فكرة نهاية التاريخ، تكون أكثر وضوحاً في الديانة الزرادشتية، وفكرة الصراع ايضا (المحرك الرئيس للهيغلية) إذ ان الزرادشتية ترىان التاريخ ومعها الانسانية ليسوا سوى نتاج صراع بين إلهين النور والظلام، وأيضا فكرة الالفية السعيدة التي صارت محور المسيحيةوبعدها اليهودية والاسلام، إن نهاية التاريخ عند الزرادشتية تكون في انتصار إله النور ويحكم فيها العدل التام للتاريخ والذورة الانسانية،كذلك عند الديانات الابراهيمية الثلاث مع ظهور المسيح او المسيا، ففي ظهوره كما في انتصار اله النور الزرادشتي، تتعطل قوانين الطبيعةحتى قيل سيلعب الطفل في الافعى دون أن تؤذية!.

غير ان هيغل في نبوءته، قد لا يؤيد تلك الخوارق التي توقف قوانين الطبيعة ولكن حين يحكم العقل التاريخ كما في نهاية التاريخ الهيغلية،تتشابه الرؤية الدينية بالهيغلية من خلال الجوهر، جوهر ذروة التطور الانساني والسعادة التامة للانسانية دون أي تفاصيل، وهذا ما استعارهماركس بعد ذلك، إذ ان في المرحلة الشيوعية لن يوجد الشقاء الذي كان سوط البرجوازية ومن قبلها سوط الارستقراطية، فالكل سينعم بسعادةتامة، يوتيوبيا لا تختلف ابدا عن الالف سنه السعيدة عند الاديان القديمة ولكن من دون مسيح او إله للنور وكذلك الليبرالية الديموقراطية!.


الشقاء والعزاء 

قد تكون مثل هذه الفكرة عزاءً للنقصان البشري وكانت فعلا كذلك ولازالت، إذ ان مسألة وجود الشر في هذا العالم والعدالة المنقوصة او الظلمالمسيطر على التاريخ دوما كما الدماء، أبقت هذه الفكرة في صدور المؤمنين العزاء لانتصار الخير فيما بعد وبشكل مؤجل، وترياق لمشكلةالشر التي دائما ما تؤرق صدور اصحاب الاديان بل وحتى الملحدين!، فالعالم لا يطاق أن كان بشعاً فكيف بمن لا وجود لعالم اخر اكثرعدالة وشبيه للنموذج الكامل الذي دائما تتوق له البشرية، ان هذا الكمال كما يرى ديكارت مزروعٌ فينا، فيما يراه هو دليلا على وجود اللهيكون عند غيره توق البشرية للكمال وكمال التاريخ معها، لهذا دائما ما اصبح هذا العزاء الاخروي (نهاية التاريخ) محرك البؤس الانسانيبقدر ما هو عزاءها!.

إذ بهذه الفكرة تحركت اساطين الحملات الصليبية لاسترداد بيت المقدس وبهذه الفكرة نرى تصادم داعش وحزب الله في الشرق الاوسط،فكلا المعسكرين يرى أنه جيش النور الذي ستبدأ على يديه تلك اليوتيوبيا بظهور المهدي والمسيح ايضا، كذلك بعض التيارات المسيحيةالانجيلية ومعها بعض الاصوليين اليهود في اسرائيل، ان مثل هذه المفهوم ايضا لا يقتصر على المتدينين فقط، إذ تحت فرض الشيوعية فيالاتحاد السوفيتي السابق ماتت الملايين!، انهم خراف محرقة اليوتيوبيا الشيوعية اللينينية القادمة لهذا هم بموتهم يقدمون خيرا للبشريةجمعاء!، كذلك الحملات الامريكية في كل مكان ليس محركها الا نهاية التاريخ الليبرالية الديموقراطية كما يرى فوكوياما ويجب فرضها والاسنرجع للوراء كما يرى هنتغتون للهويات الرجعية المسلمة او الهندوسية او الارذثوكسية الروسية، لهذا لابد ان يعمم النموذج الغربيالديموقراطي على الجميع لانه ذروة التاريخ ونهايته!.

بهذا تكون فكرة نهاية التاريخ بقدر ما هي عزاء للانسانية للوصول لحالة كمال مزروعة في ذاته بقدر ما تطبيقها كان شقاء البشرية جرحهاالمفتوح دوماً!.


إنحطاط التاريخ

دوما كان السعي للكمال المزروع في الانسانية كما بينا مسبقاً، هو المحرك لكل قفزات الانسانية، أو وهمها الجميل، فكل انظمتنا السياسيةوالاجتماعية والاقتصادية كان تطويرها سعيا وراء النموذج الافضل والاكمل، نموذج او نظام شامل يستحقه الانسان الكامل او السوبرمانكما عند نيتشة، حالة تصبح فيها الانسانية لا تحتاج الاديان والاخرة أو الله ايضا (كما عند نيتشة)!، لكن ما ان يجد نظام فلسفي نفسه هوذروة التطور وفيه تكون نهاية التاريخ، يتجمد فيها التاريخ، ونرى ذلك واضح في الراسمالية التي كانت دوما تصلح نفسها وتجدد نموذجهاحتى وصلت الى فكرة نهاية التاريخ وصرنا في الالفية الثالثة في حلقة مفرغه نمتدح انجازاتها ولكن نرى عيوبها واضحةً لا نستطيع التدخلبنموذجها المقدس كما الاديان!، الحقيقة بقدر ما كانت البشرية تسعى للكمال كانت تكاد تصل له ولكن بقدر ما ترى في النموذج الذي بينيديها هو نهاية تاريخ تنهار وتعود من حيث بدأت، كما هيغل حينما رأى في نابليون ذورة التاريخ ونهايته حتى اثبتت واترلو زيف وهمه!.


                عبدالعزيز عمر الرخيمي

الاثنين، 11 نوفمبر 2019

تجليات فلسفية: ما الانسان؟


تجليات فلسفية: ما الانسان؟




  أَنا من يُحَدِّثُ نَفْسَهُ :

مِنْ أَصغر الأشياءِ تُولَدُ أكبرُ الأفكار

والإيقاعُ لا يأتي من الكلمات ،

بل مِنْ وحدة الجَسَدَيْنِ

في ليلٍ طويلٍ …
*محمود درويش - الجدارية



يقد يبدو هذا السؤال بديهياً ولا يحتاج لا لآلة الفكر كي تجيب عنه ولا لدهاليز الفلسفة أو لمختبرات العلم التجريبي ومؤسساته!، هو كائن يختلف عن بقية الكائنات وفقط!، بماذا؟ كان الجواب العتيق الجامع المانع حيوان (كائن) ناطق أو عاقل، لكن هي يكفي ذلك؟، الحقيقة يقول التاريخ اننا أمام مجموعة كبيرة من التعريفات عن هذا السؤال والذي في حقيقته ليس بديهيا بل معقد جدا بتعقيد الإنسان نفسه.

لا عجب أن يكون هذا السؤال هو السؤال الوحيد الذي حدده كانط مع ثلاث اسئله أخرى ولم يجب عنه!، فما الإنسان؟ هل هو الحيوان الناطق فقط كما يقول أرسطو ام الحيوان السياسي أو الاجتماعي كما يقول هو أيضًا؟، ام هو الحيوان العامل كما يرى ماركس أو هو كائن كسائر الكائنات أو الحيوانات المتنوعة في الطبيعة ولا فرق بينه وبينهم الا طفرة بيولوجية عشوائية أنتجها سباق الانتخاب الطبيعي لا فرق بينه وبين سائر تلك الكائنات الا درجة واحدة في سلم التطور كما يقول داروين وشيعته؟.



في الحقيقة انه بقدر ما رفعت الفلسفة من قدر الانسان حطت منه العلوم التجريبية، كما بقدر ما رفعت تلك العلوم التجريبية من قدر الحضارة الانسانية ورفعتها حطت من الانسان والانسانية ذاتها!، إننا نجد هذا الكائن في الفلسفة كما الاديان، شيئاً متعالياً بالروح او الفكر (تترجم الروح احيانا فكرا كما في اللغة الالمانية)، إذ نجده بالاديان كائناً يملك من الذات الالهية شيئا منها، الروح واللغة كما تتكلم الاديان الابراهيمية عن مَلَكة ادم باللغة او التسميات وروح الله بل وصورته، اما الفلسفة فليست عن الاديان ببعيد، اذ كان هذا الكائن ولازال في ميادينها ظاهرة كما الفكر هي سيدة التاريخ وروح العالم، ليس كائناً متميزا فقط كجماعه فقط بل وفرداً، إن حي بن يقظان مثلا ذاك الانسان الذي يولد في جزيرة وحيدا بلا قرين بشري او علوم موروثه او حتى اي اتصال ببني جنسه، يطرح نفس الاسئلة الكبرى التي اوجدت الحضارة الانسانية وستوجدها في كل حقبة زمنية، ما الحياة، ماذا بعد الموت؟ من انا؟ لماذا وجدت؟ ما الموت وما الحياة ولماذا هذا التنوع الطبيعي من حولي؟، إننا في الحقيقة جميعنا في قرارة انفسنا تومض تلك الاسئلة الكبرى في صدورنا بين حينه واخرى مهما كان مستوانا التعليمي بل حتى عمرنا، نولد اطفالاً لا ننفك عن الازعاج بالاسئلة حتى نقمع باليقين الزائف!، حتى قال احدهم انما الفلاسفة هم من اخذ دهشة الطفولة واسئلتها الى سن متقدمه دون قمع معرفي، وأليس هذا الكائن جدير بأن يبقى السؤال عنه مسألة اعظم من ان اكون بديهيه واكبر من ان نجد جوابا واحداً لها وبشكل نهائي؟ بلا!.



كانت اجوبة العلم التجريبي محطة جدا لظاهرة الانسان بل وانتكاساً له!، انتكاسا ان يكون مجرد ظاهرة كيميائية كما يقول الكيميائي، فكيف به وبكل تلك المشاعر العظيمة واسامها الحب ان يكون وتكون مجرد تفاعلات كيميائية بلا وعي او ارادة تجعل من هذه الظاهر (أي الحب) التي طالما عبدة في التاريخ وكانت لها الهة بل وكانت في الفيزياء الكلاسيكية هي من ترص هذا العالم بكواكبة ونجومه نحو المحرك الاول، مجرد تفاعل كيميائي بسيط يمكن محاكاته خارج الانسان وداخله بتدخل مختص!، واما الفيزيائي والبيولوجي لا يقلون باجوبتهم عن هذا السؤال عن قرينه، اذ ليس الانسان عندهم الا ألة عضوية وما مسألة الروح الا خرافة كما خرافة الهة العهود القديمة!، حتى قال احدهم متهكماً (شبح في الالة) ملمحا ان الالات التي حوالينا تعمل محركاتها وتزئر بالوقود لا بأشباح وخرافات الروح!، أن الانسان بعد العلوم التجريبية وقفزاتها لم يعد الا ظاهرة مادية لا تختلف عن اي شيء حولنا حتى الآلات، مما يعيدينا لما ذكرته في اول المقال، أليس الانسان أنحط كفرد بعد تطور هذه العلوم التجريبية بقدر ما رفعت هذه العلوم ايضا من حضارته؟ نحن اما مفارقة تنتج نقيضين بلا شك هي من صالح الانسان كظاهره أعظم من ان يكون هو ما اجابت عنه علومه التجريبية التي طورها!.



الحق الحق، ان مثل هذا السؤال يجب ان يبقى كما تركه كانط بلا جواب، إن قدسيته في ان لا يتم الاجاية عنه أو لنترك الفلسفة تعيدة لمكانه الصحيح بعد ان حطت منه العلوم التجريبية وأدخلتنا في مفارقة (paradox) تثبت عظمة الإنسان لا قل حيلته.



                عبدالعزيز عمر الرخيمي

الجمعة، 11 أكتوبر 2019

تجليات فلسفية: التنوير والخطيئة


تجليات فلسفية: التنوير والخطيئة



التنوير في البدء
ما التنوير؟ بالرغم من أن هذا السؤال مع أجوبته يتعدى عمرهم قرنين من الزمان إلا أننا الى اليوم نرى الكثيرين يتخبط فيه، وخصوصا من أولئك الذين أصبحوا كهنةً له وباحتكار جوابه!، فما التنوير؟

كان هذا السؤال قد تم طرح لأول مره من قبل القس يوهان تسولنر على موجة الانوار التي سبقت الثورة الفرنسية ومن ثم كانت الشعار الاقدس للثوار بعد ذلك وهي من صنعة العصر الحديث اليوم بعدما انتشرت مبادئ الثورة الفرنسية في كل مكان، يجيب كانط على هذا السؤال بانه: "خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه من خلال عدم استخدامه لعقله إلا بتوجيه من إنسان آخر".

إن هذا القصور العقلي للإنسانية هو جوهر عصور الظلام الاوربية، فالإنسان الاوربي وقتها يحتاج للوصاية مادام قصراً عقلياً مثله مثل الطفل ولكن الرعاية هنا ليست للوالدين بل للكنيسة التي تستمد (عقلانيتها الغير قاصرة) من مصدر فوق الطبيعة او الإله والوحي الإلهي لها حسب زعمها وقتئذ، وهذه الوصاية ليست وقتيه بل دائمة!، إن مثل هذه الوصاية التي تستمد شرعيتها من ذاك القصور، لم تدمر فقط الإنسان الاوربي ككونه إنسان عاقل ومن هذه المَلَكة تقوم اعظم الاكتشافات الانسانية واختراعاتها بل دمرت اهم ما يميزه عن غيره من الكائنات، حرية إرادته، وبالرغم التشديد من جميع الاديان الابراهيمية إن الانسان كائن مختلف ليس بخلقِه فقط إنما بحرية إرادته ايضا!، مع ذلك لازالت بعض الممارسات الكهنوتية الى اليوم تحجم ومن ثم تدمر هذه المَلَكة والعقلانية الانسانية معها والفرد بالنهاية!.

القصور إسلاميا!
في الجانب الاسلامي لم يكن القصور عقلياً، إذ انه تاريخيا بخلاف الجانب الاوربي الذي طمس منذ البدء صراعه مع الجانب العقلاني، نمت في المشرق جنباً الى جنب الكهنوتية بشكلها الاسلامي مع التيار العقلاني الاسلامي وسلمت له (ادعاءً) على احترام الجانب العقلاني للإنسان المسلم وخصوصيته كانسان بذلك، تسليماً للنصوص المقدسة الكثيرة التي تُقر بهذا الشيء وتؤكده، لكن ما اختلف هو التركيز على (مثله مثل الكهنوت اليهودي والمسيحي ايضا) الخطيئة الانسانية التي كانت ولازالت ينظر لها بأنها من أهم الاسباب مآسي الانسان الفردية والجمعية، خصوصاً مع النصوص الكثيرة التي تؤيد ذلك وترى أن الأنسان قاصر أخلاقيا ومن طبعه أنه كائن مذنب إذا لم تتم الرقابة عليه بشكل مفرط! (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) فلزم بعد هذا القصور الاخلاقي للإنسان الشرقي أيضا وصاية بشكل مختلف شكلها مشابهه للوصاية الكنسية الاوربية جوهرا تدعي انها أخلاقية فقط لا على العقل، لم يرتفع صوتها وتتم هيمنتها إلا بعد سنوات الهزائم السياسية والاجتماعية في نفس الانسان الشرقي في عصور الانحدار بعد القرن الرابع الهجري، ما أيد رأيها واعطاها مفاتيح الوصاية الاجتماعية اولا ثم السياسية.

ولكن هل مثل هذه الوصاية والتي هي بلا شك ضد حرية الارادة الانسانية أولا ثم الحرية ككل، معول هدم للعقلانية الشرقية؟
بلا شك فالعقلانية والحرية توأمان، إذ أن التسليم بوصاية من سلطه أعلى على الفرد ومن ثم المجتمع بسبب قصور أخلاقي لا يعني انعدام الحرية فقط ولو جزئيا بل التسليم ايضا بالتفكير عنا مثلما الاختيار ايضا، بعد ذلك إن الزعم ان مثل هذه الكهنوتية الاسلامية ووصايتها الاخلاقية لا تتصادم مع العقلانية محض خطأ، لارتباط الانتاج العقلي مع الحرية ومن دون هذه الحرية يعني لا يكون القصور فقط أخلاقيا انما ايضا قصورا عقلياً.

العدالة والوصاية
بالرغم من أن المد التنويري الاوربي ومن بعدها ترسيخ الدولة بمفهومها الحديث قد فككت مثل هذه الوصاية واقعياً على الافراد في المشرق ولو جزئياً إلا ان إعادتها لازالت صُلب برامج التيارات السياسية الاسلامية في المشرق، إذ انه العدالة في مفهوم تلك الاحزاب وفي برامجها لا يكمن كباقي الأحزاب، كما في إعادة توزيع الثروة عند الاشتراكيين او إطلاق يد الدولة عن الملكيات الخاصة او تكريس الحرية الفردية عند الليبراليين، بل في مفهوم مجتمع بلا خطيئة، إذ ايضا تكمن العدالة (عند هذه التيارات الاسلامية) في إن تمنع الدولة الخطيئة والخطيئة فقط هي الظلم المناقض للعدالة، والظلمة هم الخطاؤون!.

بهذا يكون جوهر تلك التيارات مثلها مثل جوهر الظلمات الأوربية يكمن بالوصاية، اذ ان ماهية العدالة عند تلك التيارات لا تكمن بأسلوب توزيع الحقوق أنما تكمن في تداخل تام مع الاخلاق بشكلها الفردي ما يجعل الدولة أبوية بالمقام الأول ومن ثم اعادتها لشكل بدائي ينحدر عكسيا من القرية الى القبيلة ثم الاسرة, ان الافراد في دولة تمتلك هكذا الماهية يكونون كأبناء قصر وتكون هي شغلها الشاغل لا معاقبة المخطئين أنما محاولة ان لا يكون هؤلاء الافراد خطائين وعمل عزل وقائي كبير ينصهر فيك أي نشاط أنساني وتتحول بعد ذلك لحظيرة تدجين كبيرة, ابشع مما قد تشهده أكثر الدول شموليةً ورقابة, ان مثل هذه الرقابة على أن لا يكون الافراد خطائين أبدا وملاحقة أي نشاط عفوي قد يظن أن من وراء قد تكون خطيئة هي وصاية أبشع جدا من وصاية الابوين وتلغي تماما الإرادة الإنسانية التي من طبعها الخطأ قبل الصواب.

كانت الملاحقات للآراء العلمية المختلفة عما شرعته الكنيسة، وصاية أخلاقية قبل ان تكون عقلية، اذ رأت الكنيسة أن مثل هؤلاء خطر على المجتمع ككل وقد يفسدونه، وان أقروا بسلطة الكنيسة وقصور ما وصلوا اليه من غير وحي رباني او عصمه بابوية، لهذا كانت ملاحقتهم تكون ذات طابع أخلاقي بالمقام الأول قبل أن تكون لقصور عقلي لتلك الآراء بل لخطيئة أصحابها تجاه أنفسهم ومن ثم يشكلون خطرا للمجتمع ككل والدولة كخصوص، مثلهم مثل التيارات الأخرى المناهضة سياسيا لسلطة هذه الكنيسة او هذا الكهنوت.


التنوير والخطيئة!
ولا يختلف الامر كذلك عما رُسخ في نفسية العقلية المشرقية طليت قرون كأفراد، إذ تقر هي ايضا نفسيا بانها قاصرة أخلاقيا ومن ثم تحتاج وصاية دينية كهنوتية عليها وترى بنفسها انها إن حصلت على هامش حرية ولو ضئيل أطلقت اليد لدعاة للخطيئة وصناعها، وبأنهم وبسبب خطاياهم تمر الامة جميعها بانتكاسات وانحدار ليس سياسياً او اقتصاديا او عسكريا فقط وإنما ايضا عقليا وعلمياً!، بالرغم اقرارهم ايضا ان هذه الانهيارات للسياسة والاقتصاد وكل معالم الحضارة الانسانية يكمن بالدرجة الاولى بالانتكاس العقلي والعلمي، و بشكل متناقض يرون الحل لتلك العضلة هي بالوصاية الاخلاقية عليهم!.

أن هذه الوصاية راسخه في صدور الكثيرين ممن هم في المشرق, بأنها سلطه حقة ويجب أن تكون اذا لم تكن للدولة ككل ففي أدارة لها وبشكلها الديني فقط, لا يختلف أحد من دعاة التنوير مع المتدينين أو أي احد له عقل وهو بعد ذلك شهيد أن بعض الأفعال الغير أخلاقية يجب أن يتم ألجامها ولهذا وجدت الشرائع أولا ومن قم القوانين ولكن تكمن المشكلة في هل يمكن منع هذه الأمور نهائيا أم لا؟, ترى هذه التيارات الكهنوتية أن منعها ممكن بل وأمر مقدس ولكن بطريقة تمنع كل النشاطات الإنسانية من اجتماع واختلاط بل يمتد الامر الى ما وراء ذلك, من أجهزة قمعية فعلية من رجال شرط دينين وبل واستخبارات ربما لمنع وجود الخطيئة ما يضرب صلب الكثير من النصوص الدينية التي تسلم من الله أن الانسان من طبعه الخطأ وان الخطايا أمر حتمي كلما وجد نشاط أنسان ولم يحرض على منعها بقدر ترسيخ رقابة ذاتية من الفرد ذاته على نفسه ومكافئته أن حرص عليها او الوعيد له أن اخل بها والافساح المجال لكفارات لمثل هذه الذنوب من أموال او أفعال حسنه توازن الاختلال المجتمعي بسبب نشاطه وازدياد تعقيده, لهذا ان الوصاية التي تريدها مثل تلك التيارات لا تتصادم فقط مع الفطرة الإنسانية أو تتصادم مع حريته بل مع مرجعها الرئيسي والكثير من نصوصها التي ترى انعدام الخطيئة أمر مستحيل ولن يكون في مثل هذا العالم, وانما وظيفة الدولة هي أن تأخذ الحقوق وتدير الحياة الإنسانية بعدالة توزيعية او قضائية لا وصاءيه.

انهم يخشون الحرية كما يرى كانط بسبب مزيج من الكسل والجبن من الحرية لا لانهم لا يؤمنون بها: “الكسـل والجبــن! فتكاسل الناس عن الاعتماد على أنفسهم في التفكير أدى من جهة إلى تخلفهم، ومن جهة أخرى هيأ الفرصة للآخرين لاستغلالهم، وذلك بسبب عامل الخوف فيهم" الخوف من انتشار الخطايا وإحلال الدمار بعد ذلك!

عبدالعزيز عمر الرخيمي

الجمعة، 12 أبريل 2019

تجليات فلسفية: الهوية والانا والأقنعة المستعارة

تجليات فلسفية: الهوية والانا والأقنعة المستعارة



والهويَّةُ؟ قُلْتُ
فقال: دفاعٌ عن الذات...
إنَّ الهوية بنتُ الولادة لكنها
في النهاية إبداعُ صاحبها, لا
وراثة ماضٍ.

أنا المتعدِّدَ... في
داخلي خارجي المتجدِّدُ. لكنني
أنتمي لسؤال الضحية. لو لم أكن
من هناك لدرَّبْتُ قلبي على أن
يُرَبي هناك غزال الكِنَايةِ...

محمود درويش

ما هي الهوية؟ يرى ابسط تعريف لها أنها السمات التي تميز شيء عن غيرة او شخص عن غيره او مجموعة عن غيرها، اما بما يتعلق بالشخص فهي شكله وجنسه ونوعه وطابور طويل من السمات التي توجد قبل أن يوجد الشخص ذاته من أسماء تتبع اسمه وكيان جغرافي سيرتبط به وربما عند البعض سيكون نسبه وسمات كثيرة لازالت تبتدع لهذا لطالما لعن الوجوديون هذه الهوية التي لن تكون شيئا الا محمولا لأشياء تسبق وجوده ونادوا بهوية لا تكون سابقة للوجود ذاته, أي هوية يبتدعها ويصنعها صابحها بعد أن يوجد لا قبل ان يوجد ولكن هل هذا حلم مستحيل عند حيوان (كائن) لا يستطيع العيش دون جماعة كما يرى ارسطو, فالجماعة او المجتمع بمعناه الاوسع هو ما يفرض كل ذلك وبنفس الوقت لا نستطيع الانفكاك عنه كحيوانات اجتماعية!.
بعد ظهور عالم السوشل ميديا، كان الانا والهوية شيء لا نستطيع فصلهم عن بعض، فلكل منا هوية واحدة كما أنا واحدة، لكن ماذا عن تلك الهويات (الأسماء) المستعارة؟ هل نحتاج الأقنعة لنكون أحراراً (كما يدعي أصحابها) بمثل هذا العالم الافتراضي الذي لا وجود له لأي كيان مادي لنا فيه سوى الأسماء، بدل من أننعتهم بالجبناء الا نستعير نحن مثلهم في الواقع الأقنعة ونبدل رداء سماتنا الشخصية والتي هي جزء اصيل من الهوية، مع ضجة العلاقات الاجتماعية التي نوجس منها خيفة بدأ الامر ولا انفكاك لنا منها وإلا سنكون كحيوانات بريه ضالة لا تمت للإنسانية بصلة؟

الأنا الثانية أو الأخرى كانت خيالا في قصص الكومكس كما نجدها في شخصية كلارك الوجه الإنساني لسوبرمان (كال ايل), الغريب الجميل بنفس الوقت في عبقرية مبتكر هذه الشخصية جيروم سيغل, أننا قد نكون كما كلارك خوفه من البشرية جعلته يتقنع بهذه الشخصية, بينما في الخفاء هو سوبرمان, (كال ايل) الشخصية الحقيقية!, فبالرغم من قواه الخارقة الا أنه يوجس من البشر والمجتمع خيفة أن يكون مختلفاً, لفهمه التام أن البشر يخافون مما يختلف عنه ويدمرونه تباعا أو يحاولون تدميره بدافع الخوف, نجد هذا السلوك عند أي بشري, ما ان يلمح جسما غريباً حتى بعد ان يعتريه الخوف يقوم بقذف أي شيء تجاهه محاولة فهمه من خلال تدميره, فكيف بأفراد يعاكسون الجماعة بكل ما تجريه وتؤمن به؟, لا نجد بالتاريخ الا مصيرهم بين الصلب والقتل وبين النفي او التهجير, أنها الانا الجمعية التي لا تريد أخر خارجا عنها!.

اما على الصعيد الشخصي, لماذا نحتاج مثل هذه الهويات المزيفة؟ او الأنا الثانية او الثالث؟, بلا شك لكي لا يجري علينا مصير الشاذ عن الجماعة ومن ثم النفي او التدمير والقتل المعنوي لنا, وبنفس الوقت لا نستطيع نجاري احكام اجتماعية في الواقع تناقض ما نحن عليه بداخلنا, بين ما تجبرنا الجماعة بالحديث عنه مثلا والايمان به, وما بين ما نحن نريد قوله او لا نؤمن به!, فنطر جميع بمجرات الجماعة بتلك الانا الثانية والهوية المزيفة بكل سماتها حتى وأن كانت بنفس كياننا المادي, فهل بعد كل ذلك زيد هو زيد فعلا كما يقول قانون الهوية في المنطق؟, ام نحن امام كيانات متعددة في زيد ذاته تحكمها الظروف والطبيعة الاجتماعية والمكان والزمان وأين زيد بين هؤلاء النقائض أن صح القول؟.

يكاد يكون كلارك الوهمي نحن في الواقع بينما في الخفاء وبين دائرة مغلقة تظهر شخصيتنا الحقيقية (كال ايل) التي تتلفت كي لا يراها أحد مما لا تعرفهم جيدا ويكشف أمرها!, وتلعن الذوبان بمجتمع يجعلها صريعة صراع التناقضات في داخلها, فلماذا بعد كل ذلك ندعي أن في السوشل ميديا صاحب الهوية الوهمية جبان؟ او لا يملك ثقة بنفسه او حتى بلا هوية وهم ونحن سواء, غير انه وجد مكانا ينزع تلك الأقنعة ويركلها ويصرح كما المسيح فوق الجبل بكل ما يؤمن به وكل ما يلعنه!, لهذا الامر ربما عدوانيون بعكس طبيعتهم التي نعرفهم عليها خارج هذا العالم وخارج هذه الهوية المستعارة (وان تكن الحقيقية), فهم بهذه اللحظة من النيرفانا الاجتماعية يتحررون من كل قيد اجتماعي ومن أي رقابة خارجية تسجل ما يقول وما يفعل بحق أحكام اجتماعية وشريعة المجتمع المتوارثة والتي أيضا لا يؤمن بها الجموع وتتصادم مع أي قيمة كبرى إنسانية او دينية ولكن لا تجرئون على تجاوزها ولا يسمحون لاحد تجاوزها كي لا يقعوا مع ذلك المتجاوز تحت صعيد واحد, بعقل جمعي يكاد يكون سلسلة طويلة تربط الجميع ببعضهم وعلى سفح هاوية لا يسمحون لأي احد الهروب منهم كي لا يهلك بالسقوط ويسقطون معهم فيسحبونه ويبدؤون بضربه!.


في الخاتمة لا عجب ان يكون اصل كلمة الشخصية (personality) هو  كلمة (persona) اي القناع في اللاتينية!، ويبقى السؤال بعد كل ذلك أين نحن ومن نحبهم ومن نهتم لأمرهم من بين هذه الاقنعة وأين نجدهم بين عالم يكاد يكون مملوءً بالأقنعة وعند كل باب قاعة أو بيت يافطة كبيرة تقول أرتدي هذا النوع من الأقنعة فغيرها غير مرحب به! , وأين نجد ذاتنا وهويتنا بين النقائض التي اختلقناها داخلنا, هل نعيش طول وقتنا هوية كلارك المستعارة؟ بينما (كال أيل) الحقيقي منا لا يكاد يعيش من ساعات عمرنا الطويلة الا القليل حتى كدنا ان لا نكون نحن؟.






عبدالعزيز عمر الرخيمي

الخميس، 4 أبريل 2019

تجليات فلسفية: في العدالة ومفترق طرقها


تجليات فلسفية: في العدالة ومفترق طرقها




قد يكون تفسير العدالة بديهياً جدا، وأي محاولة لتفسيرها عند أبسط الناس إلا لغوا بالحديث وكلاماً لا فائدة منه، فهي أبسط الأمور وأكثرها فهما للجميع!، كيف لا وهي من القضايا الجوهرية في كل شيء، القانون والأخلاق والدولة وعلاقة الانسان كفرد بالأخر!، ولكن ماذا لو تساءلنا بقصة بديهية مثل قصة روبن هود مثلا؟

هل كان روبن هود يحقق العدالة حين كان يسطو على قوافل نيوتغهام ويقوم بتوزيع الثروة التي صارت متركزة في يد اغنياءها هناك ويخرق قانون المدينة التي كما يرى اغلبية الشعب معه بأنها مدينة فاسدة ويحميها جيش فاسد وسلطة
أكثر فساداً!، من يستطيع هنا القطع بين ما يقوم به روبن هود على صواب رغم أن فعله خارج القانون والأخلاق حتى وبأن شريف (عمدة) نيوتغهام على صواب بملاحقته كقاطع طريق وخارج عن القانون البديهي ومن ثم يجزم نقاد قصته اليوم بذلك! من ثم هل العدالة قد تتحقق بكسر قوانين وأخلاق بديهية أكثر من العدالة ذاتها؟ وأليس العدالة بالأساس مصدراً لهما؟، نحن أمام حزمة أسئلة لا تقف رغم قطعنا في البدء أن العدالة أمر بديهي لدرجة أن تفسيرها أو وضعها بقالب اصطلاحي ضرب من الجنون أو التكلف الممل.

مثل هذه المقدمة قد تجعلنا بمفترق طرق عدة كلاها تدعي أنها المؤدي للعدالة، وتدعي أنها الأقصر بينما أختها اكثر وعوره وطولا وخطرا حتى تهرب من بيني أيدينا العدالة نفسها أو تفر من ملل الانتظار! , وبهذه الطرق أين نجد أكثر الشرور وقوعا ويختلط ما هو شيطاني بما هو وملائكي وتكاد ترى ملائكة العدل والقانون تصافح شياطينا أبلت بلاءً حسنا بنزع أجوبة من مجرم لا يكد يعترف بفعلته لولا القسوة, وأخرين ينظرون للعدالة ضاحكين والدماء تتصبب بين أيديهم وهي تقطع بسيفها وهي معصوبة العينين على أبرياء جعلتهم القسوة أيضا يعترفون بجرم لم يرتكبونه, مرابين كما عند ديستوفسكي يفرح قتلهم بيد لصوص صدور قوم أثقلتها الديون الربا وانتزعت أرواحهم ابتزاز الديّن حين يتخطف خبز الكفاف من أيديهم وهو يترقب!, فأين العدالة بين كل ذلك ويزيد؟ هل أقصرها على أيدي الشياطين أم أطولها حتى تكاد تفر ولا تقع وتكون مستحيلا وحلم في هذا العالم الذي أرهقه التعقيد.

لنضرب مثلا قريةً لا تكاد تكون أمنه, نخرها الفساد الاجتماعي الذي يرعاهُ عمدة تلك القرية, وحين يسأل الناس الشرطة أو المؤسسات الأمنية الأخرى, يردون بالقانون أن لا أثبات أو دليل مادي موجود ولتريثوا, وفي ذات نهار قامت العصابة التي كان يرعاها فساد تلك القرية بقتل عمدة القرية لخلافات تتعلق بصفقة لم تتم, هل نستطيع القول بأن العصابة تلك قامت بعمل بطولي حقق العدالة أخيرا؟, عند عامة الناس نعم وربما قد ينتخب زعيمهم عمدةً جديد لتلك القرية لكن عند القانونيين لا هي جريمة قتل كاملة الأركان وعند أصحاب النزعة الأخلاقية هو قتل ولا عدالة تتحقق بهذا الفعل؟ مما يدخلنا بنفق أشد ظلمة وأكثر ضيقا على الانفس؟, هل أغلب الابطال الذين عبدناهم وما زلنا نعبدهم, أناس حققت العدالة فعلا كما يطرحها الفن بالمسرح والسينما والرواية, أم هم ربما أناس لا يقلون شراً عن مما أراحونا منهم وشركاء سابقين لهم في جنح ظلام الهامش الذي قد لا نراه ولم نقرأه لسقوطه من النص؟, ربما وتبقى العدالة ضائعة ومبهمة رغم ايماننا قطعا بأنها واضحه ولا تغيب كما الشمس!






عبدالعزيز عمر الرخيمي

الخميس، 21 مارس 2019

تجليات فلسفية: الانسان خالقاً والوجود مُتخيلاً


تجليات فلسفية: الانسان خالقاً والوجود مُتخيلاً



قد يشك أبسط انسان في وجود الغيلان والعنقاء ولكن نادرا ما نجدهم يشكون في شخصيات روائية لم توجد ابدا ككيان فيزيائي بلحم ودم، مثل شارلوك هولمز مثلا وجولييت وشهريار!, وشخصيات عديدة عالقة بالذهن الإنساني ككل من أوديب الى حتى الجندي رايان!, وذلك يرجع لقوة خيال مبتكرين هؤلاء الشخصيات, فالخيال شكلٌ اخر من الخلق ووجها عملتها الاخر لكن بلا وجود فيزيائي واقعي ان صح القول, نحن حين نحضر أحدا المسرحيات او الأفلام في دور العرض السينمائية, انما نشهر حالة خلق لكيان يكاد يكون واقعي ولكن موازي لوقعنا, يتجلى في الممثلين لذلك العمل ويحرك خيوطه المخرج ويقف بأعلى قمته المؤلف كالخالق لهذا الوجود الجديد والذي لا نكاد ننفك من تأثيره ونخرج من بعده نحمل الاعجاب لاحدى شخصياتها او افعالها وحتى حزمة الأسئلة وكأنها وجود انساني بدا بطور الوجود وانتهى لتبقى الأسئلة كخيوط ضباب لنهاية ذاك العالم وقيامته.

يعرف الفلاسفة الخيال بأنه حاله استحضار صور تم رؤيتها من الواقع ولكن يزيد البعض بأنها أيضا أبداع بربط تلك الصور وابتداع صور جديد لا توجد خارج خيال المبتدع هذا ومستحدثه من ذهنه, وهنا نقف, الابتداع باللغة هو الاتيان بشيء لم يكن له اصل ويشبه جدا الخلق أو الاختلاق, هل الانسان بهذه الصفحة دون غيره من الكائنات يمكن ان يكون أقتبس من الألوهية صفة الخلق ولكن فقط بالخيال دون الإيجاد المادي او الفيزيائية؟, ربما نعم, فكيفي أن نعرف ان غالب قصصنا الشعبية التي نتبادلها للعبرة واخذ الحكمة ليست اكثرها الا ابتداع شخص ذو خيال حاد خلاق, حتى كدنا من قوة خياله لهذه المأثورات لا نحس او لا نعلم أكانت شخصياتها وجدت فعلا أم لا؟ ويسلم الكثيرين بنعم وجدوا وأن كانوا أنصاف ألهه وخارقين ولا يخطئون ولا يعتريهم النقص، فقط لقوة تأثيرها على خيالنا، وأليس الحقيقة عند الكثيرين من البسطاء هي أمر تم الاجماع عليه بأنه حقيقة وتم توارثها من أباء لا نشك بما ورثوه هم أيضا.

الإنسانية رغم تحقيرها للخيال بوصفها عالم لا وجود له الا في رؤوس المجانين او الهائمين بلا تجارب, الا انها لا تكاد تنفك منها حتى بأكثر عصورها عقلانية, نرى ان الحضارة نفسها وكل منتجاتها ليست الا أمورا خيالية قبل عصور من وجود تلك الحضارة وكان التفوه ببنيان كالأهرام مثل او حدائق معلقة او حتى بارود الى الطائرات والسيارات يكفي بأن يقتل من في الأرض جميعا من الضحك وقتل صاحب ذاك الخيال من خيبة الامل والخيبة والعار لما تفوه به!, ثم نعجب بعد ذلك حين تحقق خيالات او ما كانت تسمى هلوسات على ارض الواقع, ونتناقش هل الخيال عالم موجود فعلا ولكن لم يأتي وقته بعد؟, وهل صاحب ذاك الخيال انسان استطاع ان يسافر بالزمن ذهنيا بحجج منطقية واحيانا لا منطقية حين تفوه بها قبل أن توجد؟ أم ربما ان الذهن الإنساني فعلا يمتلك صفة الخلق ووحدهم ولأولئك الذين نصفهم بالمجانين يستطيعون تحفيزها وربما استشراف ما جمعه الاله الخالق الأعظم به من سره ولا يمسه الا المطهرون من أوهام الواقع القائم وقتها.

ان الخيال لا يقف عند هذا الحد الكلي فقط, بل يكون كثيرا دواءً لأولئك الذين ارهقهم الواقع وما يعتريهم منه, فيصبح ذاك المنطوي الى  ذاته خالقا جنته في نفسه ولها ينسحب ويتقوقع في اسوء حالاته, فيرفع أعمدت سماوتها ويبسط بساتينها ويزينها بألوان لا تجتمع في بيئته فتكون له مسكناً ويجلب ان شاء محبوبته لها او يستحضرها للواقع بقصيدة لها مع ذكر سيرهم في جنانها والنعيم في ظلالها وسدرها وثمرها وأن لم تكن محبوبته حقا لهذا الامر جرت ومشت ولكن القصيدة واللغة توجد ذلك في خيالها وتجعلها تعيشها وكأنهم في نفس الجنة معاً ودوماً.
ومن هنا وجد الفن بكل اركانه من لوحات اذهلت الذين لا يستطيعون بخيالهم لوحدهم تحفيزه فيلجئون لمثل هؤلاء واعمالهم وما خلقوه بذواتهم قبل ان يصب في لوحات او منحوتات او حتى موسيقى ترسم برتمها الصاعد والهابط وجودا اخر بحبر الأصوات في أذهان السامعين, رغم لعن فرانسيس بيكون لكهوف الذات ولكن لولا هؤلاء الذين ابتعدوا جدا عن الواقع وبدأوا بريشة الخيال صنع عوالم موازية لعالمنا هل هناك فنٌ سيقوم؟, استحالة!, ويكفي بالخاتمة ان نذكر ان حتى الفيزياء اكثر العلوم بعدا وتحقيرا للواقع لولا عالم الأرقام الذي لا وجود واقعي له لم يقم هذا العلم ولا قوانينه التي تحاول محاكاة الواقع والظاهرة الطبيعية لا استنساخها, ألم يكن الخيال هو محفز أينشتاين نفسه؟ نعم وهو بعد ذلك شهيد.



عبدالعزيز عمر الرخيمي