الاثنين، 9 ديسمبر 2019

تجليات فلسفية: نهاية التاريخ وهيغل نبياً


تجليات فلسفية: نهاية التاريخ وهيغل نبياً





أَعلى من الأَغوار كانت حكمتي
إذ قلتُ للشيطان : لا . لا تَمْتَحِنِّي !
لا تَضَعْني في الثُّنَائيّات ، واتركني
كما أَنا زاهداً برواية العهد القديم
وصاعداً نحو السماء ، هُنَاكَ مملكتي
خُذِ التاريخَ ، يا ابنَ أَبي ، خُذِ
التاريخَ … واصنَعْ بالغرائز ما تريدُ

          *محمود درويش - الجدارية


تبقى مسألة نهاية التاريخ إلى اليوم ليست فقط من المسائل الشائكة من معسكر لاخر بل وايضا المحرك الرئيس لتلك المعسكرات سياسياوعسكريا ونفسيا ايضا، قد يظن البعض أنها مسألة بدأت مع هيغل (إذ يرى ان التاريخ البشري يصل لمرحلة نهائية من السيرورة ويكونالكمال فيها) ولكن الحق هي بجوهرها قديمة قدم التاريخ وربما ابعد من ذلك بقليل!.
أنها اسقاط أو انعكاس للحالة الانسانية التي تسعى دوما للكمال لهذا لا بد ان يصل التاريخ مع الانسانية للكمال الذي تتوقف فيه السيرورةوالتطور الى نهاية انها قمة الجبل للتاريخ الانساني وما بعدها الا انحدار له وسقوط.

هيغل نبياً

كان واضحاً التأثر الديني على نسق هيغل العقلي، ربما قد يرجع البعض لسنوات عمره الاولى التي كان يعده فيه اهله أن يكون قسيساً، أوربما دراسته المستفيضة لجميع الاديان، ومحاولته تفسير وجود تلك الاديان من خلال التطور الذي يرى المسيحية ذروته التي جمعت كلمحاسن الاديان القديمة وتركت الغث منهُ واستأثرت بالسمين.

لكن تلك الدراسة أثرت على النسق الفلسفي الهيغلي ومن بعد ستأثر على كل المدارس التي ستاتي من بعده خصوصا الماركسية والليبرالية،إذ أن فكرة نهاية التاريخ، تكون أكثر وضوحاً في الديانة الزرادشتية، وفكرة الصراع ايضا (المحرك الرئيس للهيغلية) إذ ان الزرادشتية ترىان التاريخ ومعها الانسانية ليسوا سوى نتاج صراع بين إلهين النور والظلام، وأيضا فكرة الالفية السعيدة التي صارت محور المسيحيةوبعدها اليهودية والاسلام، إن نهاية التاريخ عند الزرادشتية تكون في انتصار إله النور ويحكم فيها العدل التام للتاريخ والذورة الانسانية،كذلك عند الديانات الابراهيمية الثلاث مع ظهور المسيح او المسيا، ففي ظهوره كما في انتصار اله النور الزرادشتي، تتعطل قوانين الطبيعةحتى قيل سيلعب الطفل في الافعى دون أن تؤذية!.

غير ان هيغل في نبوءته، قد لا يؤيد تلك الخوارق التي توقف قوانين الطبيعة ولكن حين يحكم العقل التاريخ كما في نهاية التاريخ الهيغلية،تتشابه الرؤية الدينية بالهيغلية من خلال الجوهر، جوهر ذروة التطور الانساني والسعادة التامة للانسانية دون أي تفاصيل، وهذا ما استعارهماركس بعد ذلك، إذ ان في المرحلة الشيوعية لن يوجد الشقاء الذي كان سوط البرجوازية ومن قبلها سوط الارستقراطية، فالكل سينعم بسعادةتامة، يوتيوبيا لا تختلف ابدا عن الالف سنه السعيدة عند الاديان القديمة ولكن من دون مسيح او إله للنور وكذلك الليبرالية الديموقراطية!.


الشقاء والعزاء 

قد تكون مثل هذه الفكرة عزاءً للنقصان البشري وكانت فعلا كذلك ولازالت، إذ ان مسألة وجود الشر في هذا العالم والعدالة المنقوصة او الظلمالمسيطر على التاريخ دوما كما الدماء، أبقت هذه الفكرة في صدور المؤمنين العزاء لانتصار الخير فيما بعد وبشكل مؤجل، وترياق لمشكلةالشر التي دائما ما تؤرق صدور اصحاب الاديان بل وحتى الملحدين!، فالعالم لا يطاق أن كان بشعاً فكيف بمن لا وجود لعالم اخر اكثرعدالة وشبيه للنموذج الكامل الذي دائما تتوق له البشرية، ان هذا الكمال كما يرى ديكارت مزروعٌ فينا، فيما يراه هو دليلا على وجود اللهيكون عند غيره توق البشرية للكمال وكمال التاريخ معها، لهذا دائما ما اصبح هذا العزاء الاخروي (نهاية التاريخ) محرك البؤس الانسانيبقدر ما هو عزاءها!.

إذ بهذه الفكرة تحركت اساطين الحملات الصليبية لاسترداد بيت المقدس وبهذه الفكرة نرى تصادم داعش وحزب الله في الشرق الاوسط،فكلا المعسكرين يرى أنه جيش النور الذي ستبدأ على يديه تلك اليوتيوبيا بظهور المهدي والمسيح ايضا، كذلك بعض التيارات المسيحيةالانجيلية ومعها بعض الاصوليين اليهود في اسرائيل، ان مثل هذه المفهوم ايضا لا يقتصر على المتدينين فقط، إذ تحت فرض الشيوعية فيالاتحاد السوفيتي السابق ماتت الملايين!، انهم خراف محرقة اليوتيوبيا الشيوعية اللينينية القادمة لهذا هم بموتهم يقدمون خيرا للبشريةجمعاء!، كذلك الحملات الامريكية في كل مكان ليس محركها الا نهاية التاريخ الليبرالية الديموقراطية كما يرى فوكوياما ويجب فرضها والاسنرجع للوراء كما يرى هنتغتون للهويات الرجعية المسلمة او الهندوسية او الارذثوكسية الروسية، لهذا لابد ان يعمم النموذج الغربيالديموقراطي على الجميع لانه ذروة التاريخ ونهايته!.

بهذا تكون فكرة نهاية التاريخ بقدر ما هي عزاء للانسانية للوصول لحالة كمال مزروعة في ذاته بقدر ما تطبيقها كان شقاء البشرية جرحهاالمفتوح دوماً!.


إنحطاط التاريخ

دوما كان السعي للكمال المزروع في الانسانية كما بينا مسبقاً، هو المحرك لكل قفزات الانسانية، أو وهمها الجميل، فكل انظمتنا السياسيةوالاجتماعية والاقتصادية كان تطويرها سعيا وراء النموذج الافضل والاكمل، نموذج او نظام شامل يستحقه الانسان الكامل او السوبرمانكما عند نيتشة، حالة تصبح فيها الانسانية لا تحتاج الاديان والاخرة أو الله ايضا (كما عند نيتشة)!، لكن ما ان يجد نظام فلسفي نفسه هوذروة التطور وفيه تكون نهاية التاريخ، يتجمد فيها التاريخ، ونرى ذلك واضح في الراسمالية التي كانت دوما تصلح نفسها وتجدد نموذجهاحتى وصلت الى فكرة نهاية التاريخ وصرنا في الالفية الثالثة في حلقة مفرغه نمتدح انجازاتها ولكن نرى عيوبها واضحةً لا نستطيع التدخلبنموذجها المقدس كما الاديان!، الحقيقة بقدر ما كانت البشرية تسعى للكمال كانت تكاد تصل له ولكن بقدر ما ترى في النموذج الذي بينيديها هو نهاية تاريخ تنهار وتعود من حيث بدأت، كما هيغل حينما رأى في نابليون ذورة التاريخ ونهايته حتى اثبتت واترلو زيف وهمه!.


                عبدالعزيز عمر الرخيمي