الاثنين، 11 نوفمبر 2019

تجليات فلسفية: ما الانسان؟


تجليات فلسفية: ما الانسان؟




  أَنا من يُحَدِّثُ نَفْسَهُ :

مِنْ أَصغر الأشياءِ تُولَدُ أكبرُ الأفكار

والإيقاعُ لا يأتي من الكلمات ،

بل مِنْ وحدة الجَسَدَيْنِ

في ليلٍ طويلٍ …
*محمود درويش - الجدارية



يقد يبدو هذا السؤال بديهياً ولا يحتاج لا لآلة الفكر كي تجيب عنه ولا لدهاليز الفلسفة أو لمختبرات العلم التجريبي ومؤسساته!، هو كائن يختلف عن بقية الكائنات وفقط!، بماذا؟ كان الجواب العتيق الجامع المانع حيوان (كائن) ناطق أو عاقل، لكن هي يكفي ذلك؟، الحقيقة يقول التاريخ اننا أمام مجموعة كبيرة من التعريفات عن هذا السؤال والذي في حقيقته ليس بديهيا بل معقد جدا بتعقيد الإنسان نفسه.

لا عجب أن يكون هذا السؤال هو السؤال الوحيد الذي حدده كانط مع ثلاث اسئله أخرى ولم يجب عنه!، فما الإنسان؟ هل هو الحيوان الناطق فقط كما يقول أرسطو ام الحيوان السياسي أو الاجتماعي كما يقول هو أيضًا؟، ام هو الحيوان العامل كما يرى ماركس أو هو كائن كسائر الكائنات أو الحيوانات المتنوعة في الطبيعة ولا فرق بينه وبينهم الا طفرة بيولوجية عشوائية أنتجها سباق الانتخاب الطبيعي لا فرق بينه وبين سائر تلك الكائنات الا درجة واحدة في سلم التطور كما يقول داروين وشيعته؟.



في الحقيقة انه بقدر ما رفعت الفلسفة من قدر الانسان حطت منه العلوم التجريبية، كما بقدر ما رفعت تلك العلوم التجريبية من قدر الحضارة الانسانية ورفعتها حطت من الانسان والانسانية ذاتها!، إننا نجد هذا الكائن في الفلسفة كما الاديان، شيئاً متعالياً بالروح او الفكر (تترجم الروح احيانا فكرا كما في اللغة الالمانية)، إذ نجده بالاديان كائناً يملك من الذات الالهية شيئا منها، الروح واللغة كما تتكلم الاديان الابراهيمية عن مَلَكة ادم باللغة او التسميات وروح الله بل وصورته، اما الفلسفة فليست عن الاديان ببعيد، اذ كان هذا الكائن ولازال في ميادينها ظاهرة كما الفكر هي سيدة التاريخ وروح العالم، ليس كائناً متميزا فقط كجماعه فقط بل وفرداً، إن حي بن يقظان مثلا ذاك الانسان الذي يولد في جزيرة وحيدا بلا قرين بشري او علوم موروثه او حتى اي اتصال ببني جنسه، يطرح نفس الاسئلة الكبرى التي اوجدت الحضارة الانسانية وستوجدها في كل حقبة زمنية، ما الحياة، ماذا بعد الموت؟ من انا؟ لماذا وجدت؟ ما الموت وما الحياة ولماذا هذا التنوع الطبيعي من حولي؟، إننا في الحقيقة جميعنا في قرارة انفسنا تومض تلك الاسئلة الكبرى في صدورنا بين حينه واخرى مهما كان مستوانا التعليمي بل حتى عمرنا، نولد اطفالاً لا ننفك عن الازعاج بالاسئلة حتى نقمع باليقين الزائف!، حتى قال احدهم انما الفلاسفة هم من اخذ دهشة الطفولة واسئلتها الى سن متقدمه دون قمع معرفي، وأليس هذا الكائن جدير بأن يبقى السؤال عنه مسألة اعظم من ان اكون بديهيه واكبر من ان نجد جوابا واحداً لها وبشكل نهائي؟ بلا!.



كانت اجوبة العلم التجريبي محطة جدا لظاهرة الانسان بل وانتكاساً له!، انتكاسا ان يكون مجرد ظاهرة كيميائية كما يقول الكيميائي، فكيف به وبكل تلك المشاعر العظيمة واسامها الحب ان يكون وتكون مجرد تفاعلات كيميائية بلا وعي او ارادة تجعل من هذه الظاهر (أي الحب) التي طالما عبدة في التاريخ وكانت لها الهة بل وكانت في الفيزياء الكلاسيكية هي من ترص هذا العالم بكواكبة ونجومه نحو المحرك الاول، مجرد تفاعل كيميائي بسيط يمكن محاكاته خارج الانسان وداخله بتدخل مختص!، واما الفيزيائي والبيولوجي لا يقلون باجوبتهم عن هذا السؤال عن قرينه، اذ ليس الانسان عندهم الا ألة عضوية وما مسألة الروح الا خرافة كما خرافة الهة العهود القديمة!، حتى قال احدهم متهكماً (شبح في الالة) ملمحا ان الالات التي حوالينا تعمل محركاتها وتزئر بالوقود لا بأشباح وخرافات الروح!، أن الانسان بعد العلوم التجريبية وقفزاتها لم يعد الا ظاهرة مادية لا تختلف عن اي شيء حولنا حتى الآلات، مما يعيدينا لما ذكرته في اول المقال، أليس الانسان أنحط كفرد بعد تطور هذه العلوم التجريبية بقدر ما رفعت هذه العلوم ايضا من حضارته؟ نحن اما مفارقة تنتج نقيضين بلا شك هي من صالح الانسان كظاهره أعظم من ان يكون هو ما اجابت عنه علومه التجريبية التي طورها!.



الحق الحق، ان مثل هذا السؤال يجب ان يبقى كما تركه كانط بلا جواب، إن قدسيته في ان لا يتم الاجاية عنه أو لنترك الفلسفة تعيدة لمكانه الصحيح بعد ان حطت منه العلوم التجريبية وأدخلتنا في مفارقة (paradox) تثبت عظمة الإنسان لا قل حيلته.



                عبدالعزيز عمر الرخيمي