الجمعة، 12 أبريل 2019

تجليات فلسفية: الهوية والانا والأقنعة المستعارة

تجليات فلسفية: الهوية والانا والأقنعة المستعارة



والهويَّةُ؟ قُلْتُ
فقال: دفاعٌ عن الذات...
إنَّ الهوية بنتُ الولادة لكنها
في النهاية إبداعُ صاحبها, لا
وراثة ماضٍ.

أنا المتعدِّدَ... في
داخلي خارجي المتجدِّدُ. لكنني
أنتمي لسؤال الضحية. لو لم أكن
من هناك لدرَّبْتُ قلبي على أن
يُرَبي هناك غزال الكِنَايةِ...

محمود درويش

ما هي الهوية؟ يرى ابسط تعريف لها أنها السمات التي تميز شيء عن غيرة او شخص عن غيره او مجموعة عن غيرها، اما بما يتعلق بالشخص فهي شكله وجنسه ونوعه وطابور طويل من السمات التي توجد قبل أن يوجد الشخص ذاته من أسماء تتبع اسمه وكيان جغرافي سيرتبط به وربما عند البعض سيكون نسبه وسمات كثيرة لازالت تبتدع لهذا لطالما لعن الوجوديون هذه الهوية التي لن تكون شيئا الا محمولا لأشياء تسبق وجوده ونادوا بهوية لا تكون سابقة للوجود ذاته, أي هوية يبتدعها ويصنعها صابحها بعد أن يوجد لا قبل ان يوجد ولكن هل هذا حلم مستحيل عند حيوان (كائن) لا يستطيع العيش دون جماعة كما يرى ارسطو, فالجماعة او المجتمع بمعناه الاوسع هو ما يفرض كل ذلك وبنفس الوقت لا نستطيع الانفكاك عنه كحيوانات اجتماعية!.
بعد ظهور عالم السوشل ميديا، كان الانا والهوية شيء لا نستطيع فصلهم عن بعض، فلكل منا هوية واحدة كما أنا واحدة، لكن ماذا عن تلك الهويات (الأسماء) المستعارة؟ هل نحتاج الأقنعة لنكون أحراراً (كما يدعي أصحابها) بمثل هذا العالم الافتراضي الذي لا وجود له لأي كيان مادي لنا فيه سوى الأسماء، بدل من أننعتهم بالجبناء الا نستعير نحن مثلهم في الواقع الأقنعة ونبدل رداء سماتنا الشخصية والتي هي جزء اصيل من الهوية، مع ضجة العلاقات الاجتماعية التي نوجس منها خيفة بدأ الامر ولا انفكاك لنا منها وإلا سنكون كحيوانات بريه ضالة لا تمت للإنسانية بصلة؟

الأنا الثانية أو الأخرى كانت خيالا في قصص الكومكس كما نجدها في شخصية كلارك الوجه الإنساني لسوبرمان (كال ايل), الغريب الجميل بنفس الوقت في عبقرية مبتكر هذه الشخصية جيروم سيغل, أننا قد نكون كما كلارك خوفه من البشرية جعلته يتقنع بهذه الشخصية, بينما في الخفاء هو سوبرمان, (كال ايل) الشخصية الحقيقية!, فبالرغم من قواه الخارقة الا أنه يوجس من البشر والمجتمع خيفة أن يكون مختلفاً, لفهمه التام أن البشر يخافون مما يختلف عنه ويدمرونه تباعا أو يحاولون تدميره بدافع الخوف, نجد هذا السلوك عند أي بشري, ما ان يلمح جسما غريباً حتى بعد ان يعتريه الخوف يقوم بقذف أي شيء تجاهه محاولة فهمه من خلال تدميره, فكيف بأفراد يعاكسون الجماعة بكل ما تجريه وتؤمن به؟, لا نجد بالتاريخ الا مصيرهم بين الصلب والقتل وبين النفي او التهجير, أنها الانا الجمعية التي لا تريد أخر خارجا عنها!.

اما على الصعيد الشخصي, لماذا نحتاج مثل هذه الهويات المزيفة؟ او الأنا الثانية او الثالث؟, بلا شك لكي لا يجري علينا مصير الشاذ عن الجماعة ومن ثم النفي او التدمير والقتل المعنوي لنا, وبنفس الوقت لا نستطيع نجاري احكام اجتماعية في الواقع تناقض ما نحن عليه بداخلنا, بين ما تجبرنا الجماعة بالحديث عنه مثلا والايمان به, وما بين ما نحن نريد قوله او لا نؤمن به!, فنطر جميع بمجرات الجماعة بتلك الانا الثانية والهوية المزيفة بكل سماتها حتى وأن كانت بنفس كياننا المادي, فهل بعد كل ذلك زيد هو زيد فعلا كما يقول قانون الهوية في المنطق؟, ام نحن امام كيانات متعددة في زيد ذاته تحكمها الظروف والطبيعة الاجتماعية والمكان والزمان وأين زيد بين هؤلاء النقائض أن صح القول؟.

يكاد يكون كلارك الوهمي نحن في الواقع بينما في الخفاء وبين دائرة مغلقة تظهر شخصيتنا الحقيقية (كال ايل) التي تتلفت كي لا يراها أحد مما لا تعرفهم جيدا ويكشف أمرها!, وتلعن الذوبان بمجتمع يجعلها صريعة صراع التناقضات في داخلها, فلماذا بعد كل ذلك ندعي أن في السوشل ميديا صاحب الهوية الوهمية جبان؟ او لا يملك ثقة بنفسه او حتى بلا هوية وهم ونحن سواء, غير انه وجد مكانا ينزع تلك الأقنعة ويركلها ويصرح كما المسيح فوق الجبل بكل ما يؤمن به وكل ما يلعنه!, لهذا الامر ربما عدوانيون بعكس طبيعتهم التي نعرفهم عليها خارج هذا العالم وخارج هذه الهوية المستعارة (وان تكن الحقيقية), فهم بهذه اللحظة من النيرفانا الاجتماعية يتحررون من كل قيد اجتماعي ومن أي رقابة خارجية تسجل ما يقول وما يفعل بحق أحكام اجتماعية وشريعة المجتمع المتوارثة والتي أيضا لا يؤمن بها الجموع وتتصادم مع أي قيمة كبرى إنسانية او دينية ولكن لا تجرئون على تجاوزها ولا يسمحون لاحد تجاوزها كي لا يقعوا مع ذلك المتجاوز تحت صعيد واحد, بعقل جمعي يكاد يكون سلسلة طويلة تربط الجميع ببعضهم وعلى سفح هاوية لا يسمحون لأي احد الهروب منهم كي لا يهلك بالسقوط ويسقطون معهم فيسحبونه ويبدؤون بضربه!.


في الخاتمة لا عجب ان يكون اصل كلمة الشخصية (personality) هو  كلمة (persona) اي القناع في اللاتينية!، ويبقى السؤال بعد كل ذلك أين نحن ومن نحبهم ومن نهتم لأمرهم من بين هذه الاقنعة وأين نجدهم بين عالم يكاد يكون مملوءً بالأقنعة وعند كل باب قاعة أو بيت يافطة كبيرة تقول أرتدي هذا النوع من الأقنعة فغيرها غير مرحب به! , وأين نجد ذاتنا وهويتنا بين النقائض التي اختلقناها داخلنا, هل نعيش طول وقتنا هوية كلارك المستعارة؟ بينما (كال أيل) الحقيقي منا لا يكاد يعيش من ساعات عمرنا الطويلة الا القليل حتى كدنا ان لا نكون نحن؟.






عبدالعزيز عمر الرخيمي

الخميس، 4 أبريل 2019

تجليات فلسفية: في العدالة ومفترق طرقها


تجليات فلسفية: في العدالة ومفترق طرقها




قد يكون تفسير العدالة بديهياً جدا، وأي محاولة لتفسيرها عند أبسط الناس إلا لغوا بالحديث وكلاماً لا فائدة منه، فهي أبسط الأمور وأكثرها فهما للجميع!، كيف لا وهي من القضايا الجوهرية في كل شيء، القانون والأخلاق والدولة وعلاقة الانسان كفرد بالأخر!، ولكن ماذا لو تساءلنا بقصة بديهية مثل قصة روبن هود مثلا؟

هل كان روبن هود يحقق العدالة حين كان يسطو على قوافل نيوتغهام ويقوم بتوزيع الثروة التي صارت متركزة في يد اغنياءها هناك ويخرق قانون المدينة التي كما يرى اغلبية الشعب معه بأنها مدينة فاسدة ويحميها جيش فاسد وسلطة
أكثر فساداً!، من يستطيع هنا القطع بين ما يقوم به روبن هود على صواب رغم أن فعله خارج القانون والأخلاق حتى وبأن شريف (عمدة) نيوتغهام على صواب بملاحقته كقاطع طريق وخارج عن القانون البديهي ومن ثم يجزم نقاد قصته اليوم بذلك! من ثم هل العدالة قد تتحقق بكسر قوانين وأخلاق بديهية أكثر من العدالة ذاتها؟ وأليس العدالة بالأساس مصدراً لهما؟، نحن أمام حزمة أسئلة لا تقف رغم قطعنا في البدء أن العدالة أمر بديهي لدرجة أن تفسيرها أو وضعها بقالب اصطلاحي ضرب من الجنون أو التكلف الممل.

مثل هذه المقدمة قد تجعلنا بمفترق طرق عدة كلاها تدعي أنها المؤدي للعدالة، وتدعي أنها الأقصر بينما أختها اكثر وعوره وطولا وخطرا حتى تهرب من بيني أيدينا العدالة نفسها أو تفر من ملل الانتظار! , وبهذه الطرق أين نجد أكثر الشرور وقوعا ويختلط ما هو شيطاني بما هو وملائكي وتكاد ترى ملائكة العدل والقانون تصافح شياطينا أبلت بلاءً حسنا بنزع أجوبة من مجرم لا يكد يعترف بفعلته لولا القسوة, وأخرين ينظرون للعدالة ضاحكين والدماء تتصبب بين أيديهم وهي تقطع بسيفها وهي معصوبة العينين على أبرياء جعلتهم القسوة أيضا يعترفون بجرم لم يرتكبونه, مرابين كما عند ديستوفسكي يفرح قتلهم بيد لصوص صدور قوم أثقلتها الديون الربا وانتزعت أرواحهم ابتزاز الديّن حين يتخطف خبز الكفاف من أيديهم وهو يترقب!, فأين العدالة بين كل ذلك ويزيد؟ هل أقصرها على أيدي الشياطين أم أطولها حتى تكاد تفر ولا تقع وتكون مستحيلا وحلم في هذا العالم الذي أرهقه التعقيد.

لنضرب مثلا قريةً لا تكاد تكون أمنه, نخرها الفساد الاجتماعي الذي يرعاهُ عمدة تلك القرية, وحين يسأل الناس الشرطة أو المؤسسات الأمنية الأخرى, يردون بالقانون أن لا أثبات أو دليل مادي موجود ولتريثوا, وفي ذات نهار قامت العصابة التي كان يرعاها فساد تلك القرية بقتل عمدة القرية لخلافات تتعلق بصفقة لم تتم, هل نستطيع القول بأن العصابة تلك قامت بعمل بطولي حقق العدالة أخيرا؟, عند عامة الناس نعم وربما قد ينتخب زعيمهم عمدةً جديد لتلك القرية لكن عند القانونيين لا هي جريمة قتل كاملة الأركان وعند أصحاب النزعة الأخلاقية هو قتل ولا عدالة تتحقق بهذا الفعل؟ مما يدخلنا بنفق أشد ظلمة وأكثر ضيقا على الانفس؟, هل أغلب الابطال الذين عبدناهم وما زلنا نعبدهم, أناس حققت العدالة فعلا كما يطرحها الفن بالمسرح والسينما والرواية, أم هم ربما أناس لا يقلون شراً عن مما أراحونا منهم وشركاء سابقين لهم في جنح ظلام الهامش الذي قد لا نراه ولم نقرأه لسقوطه من النص؟, ربما وتبقى العدالة ضائعة ومبهمة رغم ايماننا قطعا بأنها واضحه ولا تغيب كما الشمس!






عبدالعزيز عمر الرخيمي