الخميس، 21 مارس 2019

تجليات فلسفية: الانسان خالقاً والوجود مُتخيلاً


تجليات فلسفية: الانسان خالقاً والوجود مُتخيلاً



قد يشك أبسط انسان في وجود الغيلان والعنقاء ولكن نادرا ما نجدهم يشكون في شخصيات روائية لم توجد ابدا ككيان فيزيائي بلحم ودم، مثل شارلوك هولمز مثلا وجولييت وشهريار!, وشخصيات عديدة عالقة بالذهن الإنساني ككل من أوديب الى حتى الجندي رايان!, وذلك يرجع لقوة خيال مبتكرين هؤلاء الشخصيات, فالخيال شكلٌ اخر من الخلق ووجها عملتها الاخر لكن بلا وجود فيزيائي واقعي ان صح القول, نحن حين نحضر أحدا المسرحيات او الأفلام في دور العرض السينمائية, انما نشهر حالة خلق لكيان يكاد يكون واقعي ولكن موازي لوقعنا, يتجلى في الممثلين لذلك العمل ويحرك خيوطه المخرج ويقف بأعلى قمته المؤلف كالخالق لهذا الوجود الجديد والذي لا نكاد ننفك من تأثيره ونخرج من بعده نحمل الاعجاب لاحدى شخصياتها او افعالها وحتى حزمة الأسئلة وكأنها وجود انساني بدا بطور الوجود وانتهى لتبقى الأسئلة كخيوط ضباب لنهاية ذاك العالم وقيامته.

يعرف الفلاسفة الخيال بأنه حاله استحضار صور تم رؤيتها من الواقع ولكن يزيد البعض بأنها أيضا أبداع بربط تلك الصور وابتداع صور جديد لا توجد خارج خيال المبتدع هذا ومستحدثه من ذهنه, وهنا نقف, الابتداع باللغة هو الاتيان بشيء لم يكن له اصل ويشبه جدا الخلق أو الاختلاق, هل الانسان بهذه الصفحة دون غيره من الكائنات يمكن ان يكون أقتبس من الألوهية صفة الخلق ولكن فقط بالخيال دون الإيجاد المادي او الفيزيائية؟, ربما نعم, فكيفي أن نعرف ان غالب قصصنا الشعبية التي نتبادلها للعبرة واخذ الحكمة ليست اكثرها الا ابتداع شخص ذو خيال حاد خلاق, حتى كدنا من قوة خياله لهذه المأثورات لا نحس او لا نعلم أكانت شخصياتها وجدت فعلا أم لا؟ ويسلم الكثيرين بنعم وجدوا وأن كانوا أنصاف ألهه وخارقين ولا يخطئون ولا يعتريهم النقص، فقط لقوة تأثيرها على خيالنا، وأليس الحقيقة عند الكثيرين من البسطاء هي أمر تم الاجماع عليه بأنه حقيقة وتم توارثها من أباء لا نشك بما ورثوه هم أيضا.

الإنسانية رغم تحقيرها للخيال بوصفها عالم لا وجود له الا في رؤوس المجانين او الهائمين بلا تجارب, الا انها لا تكاد تنفك منها حتى بأكثر عصورها عقلانية, نرى ان الحضارة نفسها وكل منتجاتها ليست الا أمورا خيالية قبل عصور من وجود تلك الحضارة وكان التفوه ببنيان كالأهرام مثل او حدائق معلقة او حتى بارود الى الطائرات والسيارات يكفي بأن يقتل من في الأرض جميعا من الضحك وقتل صاحب ذاك الخيال من خيبة الامل والخيبة والعار لما تفوه به!, ثم نعجب بعد ذلك حين تحقق خيالات او ما كانت تسمى هلوسات على ارض الواقع, ونتناقش هل الخيال عالم موجود فعلا ولكن لم يأتي وقته بعد؟, وهل صاحب ذاك الخيال انسان استطاع ان يسافر بالزمن ذهنيا بحجج منطقية واحيانا لا منطقية حين تفوه بها قبل أن توجد؟ أم ربما ان الذهن الإنساني فعلا يمتلك صفة الخلق ووحدهم ولأولئك الذين نصفهم بالمجانين يستطيعون تحفيزها وربما استشراف ما جمعه الاله الخالق الأعظم به من سره ولا يمسه الا المطهرون من أوهام الواقع القائم وقتها.

ان الخيال لا يقف عند هذا الحد الكلي فقط, بل يكون كثيرا دواءً لأولئك الذين ارهقهم الواقع وما يعتريهم منه, فيصبح ذاك المنطوي الى  ذاته خالقا جنته في نفسه ولها ينسحب ويتقوقع في اسوء حالاته, فيرفع أعمدت سماوتها ويبسط بساتينها ويزينها بألوان لا تجتمع في بيئته فتكون له مسكناً ويجلب ان شاء محبوبته لها او يستحضرها للواقع بقصيدة لها مع ذكر سيرهم في جنانها والنعيم في ظلالها وسدرها وثمرها وأن لم تكن محبوبته حقا لهذا الامر جرت ومشت ولكن القصيدة واللغة توجد ذلك في خيالها وتجعلها تعيشها وكأنهم في نفس الجنة معاً ودوماً.
ومن هنا وجد الفن بكل اركانه من لوحات اذهلت الذين لا يستطيعون بخيالهم لوحدهم تحفيزه فيلجئون لمثل هؤلاء واعمالهم وما خلقوه بذواتهم قبل ان يصب في لوحات او منحوتات او حتى موسيقى ترسم برتمها الصاعد والهابط وجودا اخر بحبر الأصوات في أذهان السامعين, رغم لعن فرانسيس بيكون لكهوف الذات ولكن لولا هؤلاء الذين ابتعدوا جدا عن الواقع وبدأوا بريشة الخيال صنع عوالم موازية لعالمنا هل هناك فنٌ سيقوم؟, استحالة!, ويكفي بالخاتمة ان نذكر ان حتى الفيزياء اكثر العلوم بعدا وتحقيرا للواقع لولا عالم الأرقام الذي لا وجود واقعي له لم يقم هذا العلم ولا قوانينه التي تحاول محاكاة الواقع والظاهرة الطبيعية لا استنساخها, ألم يكن الخيال هو محفز أينشتاين نفسه؟ نعم وهو بعد ذلك شهيد.



عبدالعزيز عمر الرخيمي