الجمعة، 11 أكتوبر 2019

تجليات فلسفية: التنوير والخطيئة


تجليات فلسفية: التنوير والخطيئة



التنوير في البدء
ما التنوير؟ بالرغم من أن هذا السؤال مع أجوبته يتعدى عمرهم قرنين من الزمان إلا أننا الى اليوم نرى الكثيرين يتخبط فيه، وخصوصا من أولئك الذين أصبحوا كهنةً له وباحتكار جوابه!، فما التنوير؟

كان هذا السؤال قد تم طرح لأول مره من قبل القس يوهان تسولنر على موجة الانوار التي سبقت الثورة الفرنسية ومن ثم كانت الشعار الاقدس للثوار بعد ذلك وهي من صنعة العصر الحديث اليوم بعدما انتشرت مبادئ الثورة الفرنسية في كل مكان، يجيب كانط على هذا السؤال بانه: "خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه من خلال عدم استخدامه لعقله إلا بتوجيه من إنسان آخر".

إن هذا القصور العقلي للإنسانية هو جوهر عصور الظلام الاوربية، فالإنسان الاوربي وقتها يحتاج للوصاية مادام قصراً عقلياً مثله مثل الطفل ولكن الرعاية هنا ليست للوالدين بل للكنيسة التي تستمد (عقلانيتها الغير قاصرة) من مصدر فوق الطبيعة او الإله والوحي الإلهي لها حسب زعمها وقتئذ، وهذه الوصاية ليست وقتيه بل دائمة!، إن مثل هذه الوصاية التي تستمد شرعيتها من ذاك القصور، لم تدمر فقط الإنسان الاوربي ككونه إنسان عاقل ومن هذه المَلَكة تقوم اعظم الاكتشافات الانسانية واختراعاتها بل دمرت اهم ما يميزه عن غيره من الكائنات، حرية إرادته، وبالرغم التشديد من جميع الاديان الابراهيمية إن الانسان كائن مختلف ليس بخلقِه فقط إنما بحرية إرادته ايضا!، مع ذلك لازالت بعض الممارسات الكهنوتية الى اليوم تحجم ومن ثم تدمر هذه المَلَكة والعقلانية الانسانية معها والفرد بالنهاية!.

القصور إسلاميا!
في الجانب الاسلامي لم يكن القصور عقلياً، إذ انه تاريخيا بخلاف الجانب الاوربي الذي طمس منذ البدء صراعه مع الجانب العقلاني، نمت في المشرق جنباً الى جنب الكهنوتية بشكلها الاسلامي مع التيار العقلاني الاسلامي وسلمت له (ادعاءً) على احترام الجانب العقلاني للإنسان المسلم وخصوصيته كانسان بذلك، تسليماً للنصوص المقدسة الكثيرة التي تُقر بهذا الشيء وتؤكده، لكن ما اختلف هو التركيز على (مثله مثل الكهنوت اليهودي والمسيحي ايضا) الخطيئة الانسانية التي كانت ولازالت ينظر لها بأنها من أهم الاسباب مآسي الانسان الفردية والجمعية، خصوصاً مع النصوص الكثيرة التي تؤيد ذلك وترى أن الأنسان قاصر أخلاقيا ومن طبعه أنه كائن مذنب إذا لم تتم الرقابة عليه بشكل مفرط! (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) فلزم بعد هذا القصور الاخلاقي للإنسان الشرقي أيضا وصاية بشكل مختلف شكلها مشابهه للوصاية الكنسية الاوربية جوهرا تدعي انها أخلاقية فقط لا على العقل، لم يرتفع صوتها وتتم هيمنتها إلا بعد سنوات الهزائم السياسية والاجتماعية في نفس الانسان الشرقي في عصور الانحدار بعد القرن الرابع الهجري، ما أيد رأيها واعطاها مفاتيح الوصاية الاجتماعية اولا ثم السياسية.

ولكن هل مثل هذه الوصاية والتي هي بلا شك ضد حرية الارادة الانسانية أولا ثم الحرية ككل، معول هدم للعقلانية الشرقية؟
بلا شك فالعقلانية والحرية توأمان، إذ أن التسليم بوصاية من سلطه أعلى على الفرد ومن ثم المجتمع بسبب قصور أخلاقي لا يعني انعدام الحرية فقط ولو جزئيا بل التسليم ايضا بالتفكير عنا مثلما الاختيار ايضا، بعد ذلك إن الزعم ان مثل هذه الكهنوتية الاسلامية ووصايتها الاخلاقية لا تتصادم مع العقلانية محض خطأ، لارتباط الانتاج العقلي مع الحرية ومن دون هذه الحرية يعني لا يكون القصور فقط أخلاقيا انما ايضا قصورا عقلياً.

العدالة والوصاية
بالرغم من أن المد التنويري الاوربي ومن بعدها ترسيخ الدولة بمفهومها الحديث قد فككت مثل هذه الوصاية واقعياً على الافراد في المشرق ولو جزئياً إلا ان إعادتها لازالت صُلب برامج التيارات السياسية الاسلامية في المشرق، إذ انه العدالة في مفهوم تلك الاحزاب وفي برامجها لا يكمن كباقي الأحزاب، كما في إعادة توزيع الثروة عند الاشتراكيين او إطلاق يد الدولة عن الملكيات الخاصة او تكريس الحرية الفردية عند الليبراليين، بل في مفهوم مجتمع بلا خطيئة، إذ ايضا تكمن العدالة (عند هذه التيارات الاسلامية) في إن تمنع الدولة الخطيئة والخطيئة فقط هي الظلم المناقض للعدالة، والظلمة هم الخطاؤون!.

بهذا يكون جوهر تلك التيارات مثلها مثل جوهر الظلمات الأوربية يكمن بالوصاية، اذ ان ماهية العدالة عند تلك التيارات لا تكمن بأسلوب توزيع الحقوق أنما تكمن في تداخل تام مع الاخلاق بشكلها الفردي ما يجعل الدولة أبوية بالمقام الأول ومن ثم اعادتها لشكل بدائي ينحدر عكسيا من القرية الى القبيلة ثم الاسرة, ان الافراد في دولة تمتلك هكذا الماهية يكونون كأبناء قصر وتكون هي شغلها الشاغل لا معاقبة المخطئين أنما محاولة ان لا يكون هؤلاء الافراد خطائين وعمل عزل وقائي كبير ينصهر فيك أي نشاط أنساني وتتحول بعد ذلك لحظيرة تدجين كبيرة, ابشع مما قد تشهده أكثر الدول شموليةً ورقابة, ان مثل هذه الرقابة على أن لا يكون الافراد خطائين أبدا وملاحقة أي نشاط عفوي قد يظن أن من وراء قد تكون خطيئة هي وصاية أبشع جدا من وصاية الابوين وتلغي تماما الإرادة الإنسانية التي من طبعها الخطأ قبل الصواب.

كانت الملاحقات للآراء العلمية المختلفة عما شرعته الكنيسة، وصاية أخلاقية قبل ان تكون عقلية، اذ رأت الكنيسة أن مثل هؤلاء خطر على المجتمع ككل وقد يفسدونه، وان أقروا بسلطة الكنيسة وقصور ما وصلوا اليه من غير وحي رباني او عصمه بابوية، لهذا كانت ملاحقتهم تكون ذات طابع أخلاقي بالمقام الأول قبل أن تكون لقصور عقلي لتلك الآراء بل لخطيئة أصحابها تجاه أنفسهم ومن ثم يشكلون خطرا للمجتمع ككل والدولة كخصوص، مثلهم مثل التيارات الأخرى المناهضة سياسيا لسلطة هذه الكنيسة او هذا الكهنوت.


التنوير والخطيئة!
ولا يختلف الامر كذلك عما رُسخ في نفسية العقلية المشرقية طليت قرون كأفراد، إذ تقر هي ايضا نفسيا بانها قاصرة أخلاقيا ومن ثم تحتاج وصاية دينية كهنوتية عليها وترى بنفسها انها إن حصلت على هامش حرية ولو ضئيل أطلقت اليد لدعاة للخطيئة وصناعها، وبأنهم وبسبب خطاياهم تمر الامة جميعها بانتكاسات وانحدار ليس سياسياً او اقتصاديا او عسكريا فقط وإنما ايضا عقليا وعلمياً!، بالرغم اقرارهم ايضا ان هذه الانهيارات للسياسة والاقتصاد وكل معالم الحضارة الانسانية يكمن بالدرجة الاولى بالانتكاس العقلي والعلمي، و بشكل متناقض يرون الحل لتلك العضلة هي بالوصاية الاخلاقية عليهم!.

أن هذه الوصاية راسخه في صدور الكثيرين ممن هم في المشرق, بأنها سلطه حقة ويجب أن تكون اذا لم تكن للدولة ككل ففي أدارة لها وبشكلها الديني فقط, لا يختلف أحد من دعاة التنوير مع المتدينين أو أي احد له عقل وهو بعد ذلك شهيد أن بعض الأفعال الغير أخلاقية يجب أن يتم ألجامها ولهذا وجدت الشرائع أولا ومن قم القوانين ولكن تكمن المشكلة في هل يمكن منع هذه الأمور نهائيا أم لا؟, ترى هذه التيارات الكهنوتية أن منعها ممكن بل وأمر مقدس ولكن بطريقة تمنع كل النشاطات الإنسانية من اجتماع واختلاط بل يمتد الامر الى ما وراء ذلك, من أجهزة قمعية فعلية من رجال شرط دينين وبل واستخبارات ربما لمنع وجود الخطيئة ما يضرب صلب الكثير من النصوص الدينية التي تسلم من الله أن الانسان من طبعه الخطأ وان الخطايا أمر حتمي كلما وجد نشاط أنسان ولم يحرض على منعها بقدر ترسيخ رقابة ذاتية من الفرد ذاته على نفسه ومكافئته أن حرص عليها او الوعيد له أن اخل بها والافساح المجال لكفارات لمثل هذه الذنوب من أموال او أفعال حسنه توازن الاختلال المجتمعي بسبب نشاطه وازدياد تعقيده, لهذا ان الوصاية التي تريدها مثل تلك التيارات لا تتصادم فقط مع الفطرة الإنسانية أو تتصادم مع حريته بل مع مرجعها الرئيسي والكثير من نصوصها التي ترى انعدام الخطيئة أمر مستحيل ولن يكون في مثل هذا العالم, وانما وظيفة الدولة هي أن تأخذ الحقوق وتدير الحياة الإنسانية بعدالة توزيعية او قضائية لا وصاءيه.

انهم يخشون الحرية كما يرى كانط بسبب مزيج من الكسل والجبن من الحرية لا لانهم لا يؤمنون بها: “الكسـل والجبــن! فتكاسل الناس عن الاعتماد على أنفسهم في التفكير أدى من جهة إلى تخلفهم، ومن جهة أخرى هيأ الفرصة للآخرين لاستغلالهم، وذلك بسبب عامل الخوف فيهم" الخوف من انتشار الخطايا وإحلال الدمار بعد ذلك!

عبدالعزيز عمر الرخيمي