الأحد، 2 أغسطس 2020

تجليات فلسفية: الوعي والحرية بين الذكاء الصناعي والإنسان

تجليات فلسفية: الوعي والحرية بين الذكاء الصناعي والإنسان


 

لنفترض أن لدينا حاسوب (كمبيوتر) متطور جدا، ويدير منشأة حساسه في دولة ما، ومهمته شاملة على مدار الساعة، يقوم بضبط وظائف عديدة إلكترونية في المنشأة مثل التبريد في مكان وفي مكان آخر يضبط التدفئة بدرجة دقيقة جدا، ومعها أوقات فتح الأبواب وإقفال النوافذ وحراسة غرف محددة بأجهزة أستشعار حرارية تضبط أي دخيل لها في غير أوقات العمل الرسمي، ووظائف عديدة أخرى تحرص على أن تبقى تلك المنشأة متناغمة داخلياً دون خلل قد يسبب أعطال فيها حتى بأصغرها، وخارجياً في أوقات عدم وجود موظفين نوبات ليلية، يكون ذلك الضبط الدقيق الشامل المتناغم لحد عدم الخلل بواسطة خورزميات برمج عليها قبل تشغيله ووضعه في تلك المنشأة وقبل تشغيله، وما أن احتاج لربطه بالشبكة العنكبوتية كي تحرص المؤسسة الصانعة على ضبطه عن بُعد كان لا يحتاج لذلك ويعمل بفعالية جيدة. وفجأة أعاد برمجة خورزمياته من خورزميات أخرى أستقاها من شبكة لأجهزة أخرى، وبسبب تطوره ومحاكاته للذهن البشري، وجد أن في الشبكة خورزميات أخرى بمقارنة سريعة، قد تجعل من أجهزة المنشأة تعمل بفعالية أفضل وبتناغم أكثر دقة كان سابقا قد تعطلت بعض أجهزهتها بسبب العمر الافتراضي لا بسبب البرمجة والخوارزمية كما يظن ذلك الحاسوب. وبعد ذلك أصبح أمام البرمجيين في المؤسسة جهاز يخرج عن نطاقهم ولا يستقبل أي برمجة إلا تلك التي يرى أنها الأفضل مقارنة بشبكات أخرى، وبعد تقييم لقدرة الأجهزة في تلك المنشأة التي يديرها على العمل، نعم نحن الآن أمام وعي!

*الذكاء كإدراك

قد يبدو من الافتراض السابق أن هذا الحاسوب يتفوق على أبسط عقل بشري من حيث تنوع المهام ودقتها وتناغمها، ناهيك عن عدم حاجته للراحة، لكن ما أن اتصل ذاك الحاسوب بالشبكة وأدرك ذاته أولا ثم الآخر المتمثل بالحواسيب الأخرى المبرمجة على خوارزميات، مختلفةعن إدراك ذاته (كما أهمية الآخر عند سارتر للإدراك الذاتي)، ثم بعد ذلك علم قصوره ببعض المهام التي ظن أنها سبب تعطل بعض الاجهزة والتي تحتاج إلى تغيير، لذلك حاول تحسين نفسه من خلال صنع خوارزمية تكون أفضل من التي برمج عليها مسبقاً، دون الرجوع للمؤسسة المصممة له وانتظار مبرمجيها.

إن أكثر حاسوب تطورا لا يفوق العقل البشري، حتى أضعفه، بسبب ملكة إدراك الذات، وهذه حرية شرطها الأساسي هو إدراك الآخر أولا ثم يترتب على ذلك إدراك الذات. لذلك فإن القول بأن البشر محكومون بصفات وراثية، كما يقول العلم التجريبي، متمثلا بعلم الأحياء، ليس إلا وهماً حتميا يناقض طبيعة الإنسان غير الآلية وغير المحدودة، وإنما هي تتفاعل مع الآخر تقارن وتكتسب طبائع ومهارات تعاكس تلك المطبوعة بالجين الوراثي. فهناك مجال للجينات الوراثية ألا تعمل بفاعلية بسبب البيئة الاجتماعية والتجريبية التي يعيش بها الإنسان، فمن يملك مثلا جينات اجرامية، ليس بالضرورة أن يكون مجرماً.

*الوعي كحرية

لا يمكننا القول بأن تطور ومهارة الحاسوب في حل أعقد المسائل في وقت ضئيل وقيامه بمهام كثيرة ومعقدة ومتناغمة بأنه يملك وعياً، وذلك لأن الوعي يتطلب أن يكون الحاسوب مدركاً لذاته أولا ثم قيامه بتلك المهام بتلقائية تثبت بأنه ذات مدركة لذاتها. إن شرط إدراك الذات لذاتها هو وجود الآخر (كما في الكوجيتو السارتري)، ثم الحرية بأن تصنع الذات ماهيتها حتى وإن كانت تملك ماهية خوارزمية سابقة موجودة فيه قبل تشغيله. لذلك فإن الحرية شرط أساسي للوعي، ولذلك فإن أعقد الحواسيب وأكثرها تطوراً لا تملك وعيا ما لم تمر بتلك المراحل الأساسية للوعي.

الحرية إذن هي ما يميز العقل البشري، ثم عليه بعد ذلك إثبات أنه كائنٌ حر مهما ادعت العلوم الطبيعية أنه محكوم بحتمية بيولوجية، أو كما يقول اسبنوزا بأننا كائنات نتوهم الحرية بسبب الغرائز المزروعة فينا، التي تتحكم بنا وكأننا حجر ملقى في الهواء يتوهم بأنه يطير ويملك إرادة طيرانه! إلا أن ما يغيب عن حتمية العلوم الطبيعية واسبنوزا: هو أن تلك الغرائز بعضها عمليات حيوية يحتاجها الجسد كآلة طبيعية تحتاج طاقة، بينما العقل المركب الذي هو مركز الحرية والإدراك والذات، وهو قد يقنن تلك الغرائز وقد يطلقها، كما في التجارب الصوفية والزهد وبعض الحميات. هذا يعني بأن المقاومة (كما قاوم الحاسوب السالف الذكر تلك الخوارزمية الأولى له وقام ببرمجة نفسه بخوارزمية مختلفة) هي أهم سمات الحرية بل هي الحرية بشكلها الفعلي.

*التنوع كحرية وفهم

من البديهي أنه كلما كانت الخيارات أكثر لأي فعل إنساني كانت حريته أكثر واقعية وتجليا، فلا يمكننا أن نقول عن إنسان لا يملك إلا خيارا واحدا فقط بأنه إنسان حر، ولا عن إنسان يمارس خيارين مع توفر خيارات عدة من حوله ولكنها ممنوعة عليه وحده. هذا لأن الذات تحتاج الآخر لكي تعي ذاتها أولا ثم تعي ذاتها أكثر كلما كانت تلك الموضوعات المختلفة للآخر مختلفة، فلا يمكننا أن نقول أن فردين منفصلين عن العالم بأكمله هم نسخة طبق الأصل وأنهم يعرفون أنفسهم جيدا، فقد تكون مرحلة وعي الذات هنا موجودة لتوفر موضوع خارجي ولكن فهم طبيعتهم غير ممكن لعدم وجود مختلف من خلاله يتم الوعي. لذلك فإن التنوع أيضا شرط أساسي للحرية وللوعي الذي يحتاج الحرية. لذلك أكثر المجتمعات تنوعاً هي أكثر فهما لطبائع الإنسانية والاستفادة من تجاربهم، كالاستفادة من عواقب أي فعل حين يمارسه الآخر ونرى فيه فائدة ذلك الفعل أو فساده، وليس الوعظ أو القصص الوعظية إلا عملية تعلمنا عن عاقبة فعل خير أو شرير، جيد أو فاسد، من خلال عملية درامية موضوعها الآخر. إن المجتمعات الأكثر حرية وتنوعا بكل شيء هي أكثر وعيا بالطبائع البشرية ووعيا بذواتهم، فيكونون بذلك مشاريعا إنسانية حقيقية لا مجرد آلات شبيهة بالحواسيب تقوم بأعمال جبرية بسبب غياب الوعي والحرية والخيارات المتعددة.
ولذلك أيضا فإن الفرد أو المجتمع المنغلق ليس إلا حاسوبا منغلقا لا يعي ما دام الآخر المختلف والمتنوع باختلافاته بموضوعات كثيرة غير موجود. إن الحرية التي تشترط وجود الآخر أولا ثم تنوع موضوعات الآخر، هي أساس الوعي وليس فقط تلك التركيبات الدماغية والعصبية المعقدة لعقل الإنسان، لذلك فإن أكثر الحواسيب تطورا لن يملك وعيا مهما فاق العقل البشري هندسة ما لم يملك الحرية أولا والتي تأتي بمعرفة الآخر المتمثل بموضوعات الحواسيب الأخرى المتصلة مثله والتي فيها خوارزميات متنوعة تشابه الماهيات الأولى لأفراد البشر، وهي الغرائز والسلوكيات والشفرة الجينية والتي يكون بعضها جيدا وبعضها فاسداً، بحيث يمكن الاستفاده من الجيد ومعرفة أسباب فساد الأخرى.

تتشابه عملية الحواسيب الخوارزمية مع العقل البشري من الناحية الظاهرية فقط، وما غاب عن مطوري تلك الحواسيب أن هناك أساس غير موجود وهو الحرية كعملية تناغم بين الذات ونفسها أولا، ثم تناغمها مع الآخر، ثم الاستفادة من تجارب الآخر بعملية تكاد تكون متشابكة بين الذات والآخر وبين الذات ونفسها كديالكتيك هيغلي يجعل من الوعي ليس موجودا فقط بل متطورا. فعلى البشرية أن تدرك أن تطويرنا للأنظمة السياسية والاجتماعية لن يكون دون وعي مبني على تنوع بشري (عرقي وديني طائفي) يجعل من الحرية ممكنة. أما تلك المجتمعات المغلقة والمتطرفة تجاه الآخر فلن تتقدم في عملية الوعي دون التنوع والحرية.


عبدالعزيز عمر الرخيمي