الأحد، 26 يوليو 2020

تجليات فلسفية: الانسان كـ حيوان زماني ولعنة اللا زمن

تجليات فلسفية:

الانسان كـ حيوان زماني ولعنة اللا زمن

 


 

كم من الوقت انقضي منذ اكتشفنا التوأمين:

الوقت والموت الطبيعيٌ المرادِف للحياة؟
ولم نزل نحيا كأنٌ الموت يخطئنا ،
فنحن القادرين علي التذكٌر قادرون
علي التحرٌر ، سائرون علي خطي
جلجامش الخضراءِ من زمني إلي زمني

*محمود درويش - الجدارية

 

مـقـدمـــــة

لكي يفهم الخلود يفترض علينا فهم الزمن, ليس كحالة نقيضه له وإنما كحالة موت الزمن أو تجمدة على المُخلد لا على ما حولة, الولوج في تعريف الزمن سيتطلب علينا مقالا منفصلا وربما دراسة مستفيضه لا يسعها مقال, ولكن سأحاول بهذا المقال الاختصار مهما أستطعت وأخذ أبسط التعريفات له.

كان الجدال بين مدرسة هيراقليطس وبارمندس أعظم شيء لكي نفهم الزمن وسره, في حين الاولى يرى أن الوجود كنهر جار قد لا يلاحظ الراصد له سوا تشابه الماء من حيث جريانه أكنه لم يتغير ولكن في الحقيقة هو متغير بشكل سريع من حيث أن يجري من المنبع حتى المصب, واي شخص يظن أن يستطيع الدخول للنهر مرتين هو واهم! لان المياه التي غمرت بدنه في المره الاولى ليست هي في الثانية وهكذا, يرى هيراقليطس أن الوجود في تغير مستمر كحركة النهر, بينما يرى  غريمه بارمندس أن ليس هذا الا وهما, وانما الوجود ثابت وما الحركة الا وهم!, أبسط فهم لهذا الرأي ما طرح من مثال السهم الذي طرحه تلميذة زينون الايلي, نحن حين نقذف سهما, نظن أنه يتحرك ولكن هو يشغل حيزا في المكان في كل لحظة ليس الا وما الحركة إلا وهم!, بتبسيط أكثر اذا ما اخذنا أو رسمنا صورا لسهم ينطلق, سنجد أن في كل صورة السهم ثابت ويملئ حيزا من المكان فقط والحركة لا تكون الا بتغيير تلك الصور كما فن السينما!, رغم أن هذا الاستنتاج لزينون ومعلمه جنونياً لكنه سيكون ملهما للسينما فيما بعد, لكن ما علاقة هتان المدرستان في الزمن؟

ببساطة المحرك الناقص هنا هو الزمن!, ما يراه هيراقليطس جريانا لا يكون شيئا دون زمن! وكذلك الثبات الذي يدعيه بارمندس حقيقي أن لم يكن هناك زمن, هذا ما سيمهد للفيزياء الكلاسيكية وتعريفها لزمن كعامل حركة في المكان, فنحن من دون هذا العامل المهم في المكان, اعني الزمن سيكون كل شيئ ثابتا, البرعم وتطوره الى ورده ثم شجرة ثم تثمر وتسقط اوراقها, لن يكون ذلك دون زمن بل ونحن سنعيش بأزلية ثابته وربما لا شيئ حولنا الا البياض المطلق! وماذا عنا؟.

 

 

الزمن الذاتي

كان كانط مصيبا, حين استنتج أننا نملك وقتا كقالب عقلي منفصل عن الوقت الموضوعي خارجا, هذا القالب كما يرى كانط هو ما سيحل مشاكل ميتافزيقية كانت مستعصيه عن الاجابه, هل الكون أزلي؟ هل الكون ممتد أم له نهاية؟ قالبي أو مقولتان الزمان والمكان الذاتيتان ستصطدمان دوما بتناقض أن قررنا ان الكون أزلي لان العقل دوما لا يستطيع أن يفكر بشيئ دون بداية فلا بد من بداية! والعكس أن قررنا أن للكون بداية سيصر العقل على ما وراء تلك البداية!.

بهذا الوقت الذاتي, ترى الفيزياء النسبية الحديثة أننا قد ينفصل وقتنا الذاتي الداخلي مع الوقت الموضوعي خارجنا, كمثال اينشتاين المسلي, حين نكون مع من نحب يصبح الوقت سريعا جداً كأننا لم نمضي معهم ساعات وانما ثوان والعكس حين نكون على صفيح ساخن, ينكمش الوقت الذاتي والدقيقة على ذاك الصفيح تصبح ساعه, للذة والالم هنا حكم على الزمن الذاتي, وهذا ما يفسر لماذا الكوابيس المزعجة في غفوة بسيطة لا تتعدى دقائق قد تتمدد في ذواتنا الى سنوات بينما ذكرى جميلة بسيطة قد لا تتعدى روية وجه من نحب أن ينكمش فيها الزمان خارجنا حتى يصفعنا أحدهم ويقول أننا غبنا عن حاديثهم التي مر عليها نص ساعه!.

والان بعد أن استنتجنا وجود زمان موضوعي وزمان ذاتي, هل يمكن لهذنا الزمانان أن ينفصلنا؟ الفيزياء النسبية تقول نعم, والعامل هنا هو السرعه, كلما أزدادت سرعتنا كلما أنفصل الزمانان, وكلما أقتربنا لسرعة الضوء كلما أقتربنا لتوقف الزمان الذاتي عن الموضوعي, حتى تصبح الابدية أو الخلود ممكناً! بل يرى أيشتاين أن حتى الزمن يصبح كتله واحده, الماضي والحاضر والمستقبل كتله واحده حاضرة في ذات ذاك الذي وصل لسرعة الضوء, مثلما يخترق الضوء الكون بسرعه, يخترق زمان هذا الكون معه ماضيه وحاضرة ومستقبله, لكن لو كان هذا الفرض ممكنا أن يصل الانسان لسرعة الضوء ويكون بلا زمن موضوعي ومن ثم خالداً هل الانسان ككائن وجد وعاش وترعرع في الزمن أن يستغني عنه؟.

 

 

الخلود كلعنة انسانية

في الحقيقة أننا كائنات زمانية أكثر من اننا كائنات مرتبطه في المكان, المكان الذي عشنا فيه وترعرعنا فيه, وترتبط فيه كل ذكرياتنا, اذ أن تلك الامكن تتغير مع نسياب المكان, فالزمان هنا عامل خلق جديدة لهذا المكان كما بينما في تغير هيراقليطس, كذلك لا ننسى العواطف الانسانية والتي هي أضعف عناصر فيه, الملل والسأم من الثبات وأيضا أرتباطه فيما حوله, أن اولئك الذين عاش معهم من عائلة واصدقاء واحبه, وجيل كامل وجد فيه, لا يستطيع الانفكاك عنهم, لذلك كان هيغل مصيبا في أن الفكرة لا تعيش الا في زمانها ولكل زمان فكرة, بهذا سيعيش اولئك الذين عمروا كثيرا جيلا جديدا مختلفا عنهم ويفكر بشكل مختلف عنهم, زمن يحمل فكره مختلفه جدا عن تلك الفكره التي كانت في زمانهم, ويكونون في جحيم زمان لا يفهمهم حتى وأن تشابهت الامكنه واسماء تلك الامكنه وتفاصيلها الصغيرة!, نعم نحن كائنات زمانية محضه, الانفصال عن الزمان الموضوعي الذي عشنا فيه جحيم علينا, فهل يكون بأستطاعتنا العيش فيه اللازمان و اللاوقت؟ تركيبتنا النفسية لا تؤيد ذلك, وظاهرة النستولوجيا خير دليل!

 

في البعد الخامس الذي تتنبأ فيه النسبية كمكان يكون فيه الوقت بشكل صلب وحاضر في كل تقلباته الماضي والحاضر والمستقبل, يكون الخلود ممكنا بل وحقيقة, لكن ككائنات زمانية بحته نحن, هل يستطيع أحدنا العيش في اللاوقت ولا حركة؟ في هذا البعد ستكون المعرفة لذلك الحاضر فيه مطلقة, فالماضي والمستقبل حاضر لدية كما لو كل شيء اصبح معلوما في ذهن الصوفي المتحد مع الله, هذا البعد قد يجعل فرضية علم الله وتناقضها مع الحرية امرا ملتبسا لدينا, اذ لا تناقض بينهما, مثلما لا تناقض في شخص وصل لذلك البعد ولم يجرح بعلمه عن ماضي ومستقبل أ من الناس لان عامل التتابع والحركة في المكان قد انتهى لدية بينما عند أ موجود والحرية ممكنه في الحركة وما الارادة الا حركة في المكان والزمان.

 

 

الخاتمة

قد يكون حلم جلجامش ممكنا كما رأينا وأحلام البشر منذ وجدوا, لكن ما خفي عن جلجامش والبشر أيضا هل نطيق نحن ككائنات مركبين عقليا ونفسيا على الزمان أن نخترقه ونعطله؟, لا نقدر وأن فعلنا ذلك سنعيش في جحيم لم يفكر فيه أحد والخيال فيه مرعب, جحيم أن ينعدم كل شيء حولنا ويتوقف, مثل ذاك الفرد الذي يُسجن في البعد الخامس, يرى كل حدث في الماضي والمستقبل حاضرا كشيئ صلب, لا يستطيع الاحساس في من يعيشون فيه ولا هم يحسون به!, إله ناقص يحتاج الناس ولا يستطيع التواصل معهم أو مسهم كما لوحة مايكل انجلو.

 

نحن حيوانات أجتماعية هذا لا شك فيه ولكن الاعمق من ذلك نحن حيوانات زمانية, لا نستطيع الانفكاك عن الزمان الذي قذفنا في حيزه مثلما للمكان حيز, زمان الجيل الذي أبتلعنا كل افكاره وجيل العائلة والاخوة وجيل صنعنا فيه الذكريات وأنتقلنا فيه من فكرة الاجداد الى فكرة الاحفاد, ويكون الحل لنا خاتمة تليق بنا مثلما وجدة لنا بداية.

 

لكن تمثلات الخلود الاخرى قد تكون أفضل حلا على النفس, الخلود في الابناء كما يفكر الانسان القديم حين يكثر بنيه كي يبقى ذكره فيهم وخلود النوع مثلما نفعل في الكوارث الكبرى حين نجاهد كي يبقى أبناء عمومتنا أو وطننا أو عرقيتنا أو قوميتنا والانسانية ككل أن كان يهددها ككل, وخلود جلجامش حين بنى سورا وقام بعمران مدينته مثلما فعل الفراعنه, أو خلود العبقرية, فنيوتن وأرسطو وابن رشد وابن سينا والمتنبي حاضرون بيننا فيما وصلنا من عبقرياتهم ويبعثون في كل حين عندما نطلع على ما بقي منهم وحاولوا من خلاله الخلود ونجحوا.